يوسف ضرغام

في إطار برنامج أعلام من بلاد الأرز، تحيّة شكر وتقدير من أنطوان فضّول إلى سيادة المطران يوسف ضرغام

أسقف راحل في الكنيسة المارونية.
ولد في بلدة عبرين في قضاء البترون في السنة 1930 في كنف عائلة مسيحية ملتزمة، تفتحت في حناياها براعم إيمانه الذي نما مع مرور الوقت والسنين ليجعل منه احد روافد الفكر الماروني المعاصر، وأحد أركان السلطة الروحية الذين طبعوا بختمهم أرشيفًا ملؤه الإصلاح والتجدد.
نشأ في مرحلة قوامها الانتقال من زمن انتداب فرنسي إلى عصر الاستقلال الأول، مواكبًا هذا التحوّل الوطني المفصلي عبر نافذة التزامه المسيحي.
دخل المدرسة الإكليريكية في عين ورقة في السنة 1944، يتلقى علوم العصر وآدابه إلى جانب ثقافة دينية شاملة الأبعاد وتنشئة روحية يسوعية الإطار، منفتحة كل الانفتاح على آفاق العصر.
في السنة 1948، انتقل إلى الإكليريكية في غزير يتابع مسيرته العلمية، متعمّقًا في الفكر والمعرفة والاختبارات الروحية العميقة.
إلتحق بالجامعة اليسوعية في السنة 1953 ليبدأ دراسة جامعية أرست في داخله ثقافة مشبعة بالبحث الموسوعي.
حمل إليه العام 1959 هدية مزدوجة، فمن جهة حاز الإجازة في الفلسفة واللاهوت، ومن جهة ثانية سيم كاهنًا في 12 نيسان.
بعد سيامته الكهنوتية، سافر إلى باريس في العام 1959، حيث أكمل تخصصه الجامعي، وعاد إلى لبنان في السنة 1963، حاملاً من جامعة السوربون الإجازة في الأدب الفرنسي التي خوّلته تدريس الفرنسية في عدد من المدارس لسنين طويلة، وجعلت منه مرجعًا فرنكوفونيًا لبنانيًا ترك أعمق الأثر في مسيرة الحضارة الشرقية المعاصرة، خصوصًا لناحية تحديث البرامج التعليمية وتطوير المناهج وتفعيل العلاقة بين الأصالة الشرقية والقيم المسيحية والمنابع الفكرية الغربية.
خدم كهنوته في بقسميّا وزغرتا وكفرحي وجبلا وسواها من رعايا أبرشية البترون التي عرفته راعيًا ومرشدًا ومبشرًا ومعلمًا وكاهنًا يروي بروحانيته تربتها ويغذي بكلمة الرب خلايا أبنائها. فإذا بالحركة الروحية تنشط حيثما يعبر طيفه ويستقر ترحاله.
محطات جغرافية تتابعت، إستوطنها فترك فيها أعمق الأثر...
إلى خدمته الرعوية، عُرف بعمق عظاته ورقي فكره وحكمة إرشاده، وبتلك المصداقية والشفافية في التعاطي مع حاجات الرعية والأبرشية والكنيسة.
تميّزت سيرته الرسولية بحضور ركني ودور فاعل في مسيرة المؤسسة الإكليريكية ونهضتها وتطويرها على امتداد نصف قرن من الزمن.
عُيّن بداية مديرًا لمدرسة مار عبدا الإكليريكية في السنة 1963، ثم انتقل مع الإدارة، في السنة 1965، إلى إكليريكية غزير التي ترأسها لاحقًا من السنة 1971 حتى السنة 1974. ثم تولّى الإرشاد الروحي فيها خلال مرحلتين منفصلتين الأولى من 1977 حتى 1989 والثانية من 2006 لغاية اليوم.
له العديد من المؤلفات والمقالات والدراسات المشبعة بالعمق اللاهوتي والثقافة الروحية والإنسانية المترامية الجذور والمصادر والاتجاهات.
من أشهر ترجماته كتاب "نؤمن" بجزئين متكاملين، جذبا القراء بأسلوبهما المشبع بالحياة والنَفس الفكري الراقي والموضوعية القريبة من منطق العقل والمنسجمة كل الإنسجام مع حاجات إنسان العصر وتطلعاته ورؤيته.
انتخب أسقفًا على مصر والسودان وزائرًا رسوليًا لموارنة إفريقيا من السنة 1989 حتى 2005، فأعطي له أن يواكب الكنيسة المارونية في أدق مرحلة من تاريخها المعاصر، حيث رافق انتقالها من نفق الحرب إلى آفاق السلام والإنماء والإعمار. فكان لشخصه الدور الرائد في خدمة المجتمع المسيحي داخل لبنان وعلى امتداد القارة السوداء.
يندرج لاهوت المطران يوسف ضرغام ضمن منحى لاهوتي سياقي مشرقي، لامس أبعادًا عدّة ولّدتها تطورات نهايات القرن العشرين وبدايات الحادي والعشرين، لاسيما لناحية الحوار المسيحي المسكوني وإشكاليات الأنظومة اللاهوتية وتجديد الكنائس وإصلاحها، ومسألة إرساء خطاب لاهوتي يزاوج بين رؤية المسيحيين العرب والمشرقيين ومحيطهم السياسي والاجتماعي وبيئتهم الجغرافية وواقعهم كأقليات في عالم إسلامي متشعب الهواجس.
نشط في الحوارات المسكونية المحلّية والعالمية، وتعاطى بمطواعية مع ثقافة العصر وحاجاته وتحولاته، مساهمًا في بلورة جدلية تقدّمية أسست لمسار فكري ليبرالي يطبع اليوم الكنيسة المارونية ويضفي إلى حقيقة لبنان الرسالة ذاك الإلتزام بقضايا الإنسان وحقوقه.
هو أسقف كنيسة عانت الكثير وجُرحت في صميمها. وهو أسقف القيامة بأبعادها اللاهوتية والإنسانية والحضارية.
إلى ذلك هو مدرسة لاهوتية ميزتها الوضوح والواقعية.
المطران يوسف ضرغام أسقف إصلاحي ريادي، سفير اللاهوت إلى الناسوت. امتهن المحبة كهنوتًا جامعًا حاور من خلاله إنسان هذا العصر في شتى ميادين الحياة.
حياته مليئة بالعبر، ومكللة بالصمت المتسربل بعباءة العطاء المتدفق من رحم المحبة الإلهية.
حتى لو كانت صراحته في بعض الإحيان صارمة، إلا أن انفتاحه الإيجابي ملفت وهو نابع من إرادته في إيجاد حلول حقيقية لإشكاليات مصاغة بشكل صحيح.
بعد قرون من همود الكنيسة في الشرق وعبورها المسالك المتصحرة، جاء كلامه في الإلهيات والإنسانيات لينطق بلغة جديدة أبجديتها مستقاة من نفحة عشق إلهي تعمّق الكيان، وتطمئن الإنسان في قلقه وهواجسه وفي رحلة عبوره إلى آفاق المستقبل.