غالب غانم

في إطار برنامج أعلام من بلاد الأرز، تحيّة شكر وتقدير من أنطوان فضّول إلى سعادة القاضي غالب غانم
رئيس مجلس شورى الدولة السابق، ورئيس أول سابق لمحكمة التمييز ورئيس سابق لمجلس القضاء الأعلى.
مستشار رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، عضواً في اللجنة الإستشارية الدستورية والقانونية. حائز وسام الأرز الوطني برتبة ضابط أكبر ووسام الشرف المكسيكي.
ولد في بسكنتا في أيلول 1943، عشية استقلال لبنان. وشبّ في زمن تمأسس الدولة. حقيقتان تقاطعتا مع تنشئة وطنية في كنف عائلة ملتزمة ووالدة متدينة ووالد لغوي هو الأديب المعروف عبد الله غانم. حقائق تجذرت في وجدان غالب غانم الشاب وأسست لشخصية سرعان ما صارت عنوانًا لبنانيًا للعدالة والحق والقيم والأخلاق وعلمًا من أعلام الريادة والفكر الراقي.
سحابة سوداء غطت طفولته مع وفاة والده المفاجئة أعقبها انتقال جغرافي من أحضان القرية اللبنانية إلى آفاق المدينة في زمن الانفتاح على الثقافات.
إستقبلته بيروت مع أمه وإخوته السبعة، وفتحت أبواب معاهدها أمامه لانطلاقة دراسية جدّية نجحت بعدها، وبفضل تجاوبه وفرادته ونشاطه الحقوقي، من استعادة حقيقتها التاريخية كمدينة مرضعة للشرائع.
في الواقع، تعددت المدارس التي تلقى بها دراسته: بدء بالمدرسة التي أدارها والده فمدرسة الإخوة الفرير والاثنتان في بسكنتا، مرورًا بمدرسة الصبيان الرسمية في الأشرفية حيث حل الأول في لبنان في نتائج امتحانات البروفيه الرسمية، وثانوية فرن الشباك الرسمية المعروفة بثانوية سعيد وختامًا بمدرسة الحكمة وتبوّئه المركز الاول في امتحانات البكالوريا الفرنسية.
إلتحق بعدها بالجامعة اللبنانية، وتخرج في العام 1966 حائزًا إجازتين الأولى في الحقوق والعلوم السياسية والثانية في الأدب العربي.
تدرّج محاميًا في مكتب المحامي العلامة عبد الله لحود، ثم افتتح مكتبه الخاص. وبعد مرور ست سنوات على ممارسته مهنة المحاماة انتسب إلى معهد القضاة وتخرّج بتفوّق، في العام 1975، عشية اندلاع الحرب اللبنانية.
نيله منحة من الحكومة الفرنسية سمح له بالتمرس في مهنة القضاء في محاكم فرنسا، وأنهى تحصيله الجامعي حائزًا دبلوم دراسات عليا في القانون ودبلوم دراسات عليا ودراسات معمّقة والدكتوراه في الأدب العربي.
كانت السنة 1981 محوريةً في مسار حياته حيث دخل فيها القفص الزوجي من جهة، وارتقى قوس القضاء من جهة أخرى.
أما الزواج فمن حنان رشاد الغزال، وثمرته ولدان وسيم وزياد. وأما القضاء، فأولى مناصبه تسلّمها في العام المذكور حين عُيِّنَ رئيس محكمة جونيه في كسروان حتى السنة 1990 يوم ترأس محكمة البداية التجارية في بيروت، فمحكمة استئناف جبل لبنان، فمحكمة استئناف بيروت، بعدها ترأس هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، ثم عُيّن مدعيًا عامًا في جبل لبنان، فرئيسًا لمجلس شورى الدولة فرئيسًا أول لمحكمة التمييز وحكمًا رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى.
عشية كل نهار، كان يعود إلى منزله وقد أضاف إلى الخزينة القانونية اللبنانية قرارات رائدة واجتهادات وفيرة وآراء فقهية صوبت مسارات وفاضت عدالة وأضافت تجوهرًا إلى حقيقة تاريخية حضارية توجت جبين بيروت أمًا للشرائع .
حارس العدالة والحقيقة والحق لثلاثين عامًا ونيّف. أسندت إليه أعلى المراتب في السلطة القضائية وتبوأ أعلى هرمها. ترجم ما يتمتع به من جرأة وعلمية في سلسلة القرارات التي اتخذها خلال رئاسته مجلس شورى الدولة.
في عهده، إتّخذ المجلس سلسلة قرارات اعتُبرت شديدة الحساسية. كرّس مفهوم "العلم والخبر" في قانون الجمعيات 1909، بعد أن حولته وزارة الداخلية إلى رخصة. وأمام مرسوم التجنيس ذي الرقم 5247 الصادر في العام 1994 في عهد الرئيس الياس الهراوي، والذي قسّم البلاد بين مؤيد ومعارض، حكم بالعدل وأصدر قراره القاضي بسحب الجنسية من غير مستحقيها. كذلك لم يتأخر في إصدار قرار إبطال البند التحكيمي في الدعوى المقدّمة من الدولة اللبنانية ضد شركتي الهاتف الخلوي.
خلال توليه رئاسة مجلس القضاء الأعلى، حقق ما يشبه المعجزة داخل الجسم القضائي، في العام 2009، حين زاد عدد القضاة من خلال منظومة المباريات وبروحية إصلاحية نادرًا ما شهدتها أروقة السلطة الثالثة.
حرص كل الحرص على استقلالية السلطة القضائية، وأعاد ثقة غالبية اللبنانيين بها وبعدالة أحكامها، واضعًا حدًا للإحباط الذي ساد العلاقة بين المواطن والعدلية في الربع الأخير من القرن العشرين.
نقل القضاء اللبناني من معارج القرن البائد، إلى آفاق القرن العشرين، منعشًا حقل القانون اللبناني، ومجددًا أحكامه وجاعلاً التشريع في بلاد الأرز يواكب العصر ويحاكي مشاكل إنسان اليوم.
هي ثورة قوس قزحية داخلية، بكل ما للعبارة من معنى، شهدها عهده، فتنفست كل القطاعات والمؤسسات وأروقة الدولة اللبنانية ومكونات المجتمع كافة، نهضةً وإصلاحًا وعدلاً وشفافية.
بموازاة مسؤولياته على مستوى القضاء، جاءت مؤلفاته الأدبية والقانونية، وخطبه ومحاضراته وتدويناته على اختلافها ووفرتها، وتنوّعها، لتغني المكتبة اللبنانية والعربية وتعيد إلى بيروت ألقها ومكانتها في دنيا الفكر الحر والتشريع والإصلاح والأدب الراقي.
مؤلفاته في القانون:
القوانين والنظم عبر التاريخ
قوانين التنفيذ في لبنان بمشاركة القاضيي غبريال سرياني.
من خزائن الاجتهاد في القانون التجاري
من خزائن الاجتهاد في القانون المستعجل.
من أيام القضاء.
في مدار القانون.
حكم القانون.
مؤلفاته الأدبية:
شعر اللبنانيين باللغة الفرنسية.
من الشائع إلى الأصيل.
شعر عبد الله غانم، دراسة البنية والمحاور.
من ناحية أخرى، افتتح في بسكنتا، مركز عبد الله غانم الثقافي بمتحفه وحديقته ومكتبته العامة.
بعد تقاعده، لم يتوقف عن العطاء بل استمر ناشطًا على محاور ثلاثة أولها عمله في مجال الاستشارات القانونية، وثانيها تماديه في الخدمة الاجتماعية، وثالثها التدريس في معهد الدروس القضائية مع الإشراف على أطروحات الدكتوراه.
لا يزال حاضرًا برصانته وحكمته على كل محاور البحث الأدبي والفلسفي والقانوني والوطني.
أفكاره تستنهض الهمم الفكرية وتنبت براعم النهضة الربيعية وتخطّ دروب الاستقلال الثقافي، وتزاوج بين حدود الحضارة والعصرنة.
يبقى الرئيس غالب غانم مرجعًا في القانون وفي الأدب. خدم الحق والحقيقة طيلة نصف قرن، متخطيًا بجرأة وثبات، مختلف القيود التي حاولت أن تكبّل مؤسسات الدولة، بما فيها العدلية.
بصماته شديدة البروز في سجل القضاء، وصدى أحكامه يعكس اعتداله وإنصافه ونزاهته المترفّعة ووطنيته المتجرّدة.
قاض لبناني جريء، شرّف السلطة القضائية بتاريخه العريق، لا سيما وأنّه في أحلك المراحل، لم يتأخّر في تولّي المهمات الصعبة والنظر في القضايا ذات المواضيع الحساسة والمسائل الدقيقة، واضعًا كفاءته في خدمة الوطن وجاعلاً سيادة القانون هدفًا رئيسًا، رسّخ من خلالها مفهوم دولة المؤسسات السيّدة والعادلة في إطار الجمهورية اللبنانية المستقلّة.
(إعداد: أنطوان فضّول)