التحدّي
تأليف أنطوان فضّول
تعيش ماري في قرية جبلية صغيرة، حيث يلف الغيم الأفق وتنتشر بين الجبال أجواء من الهدوء والسكينة.
تنبض الحياة هنا ببطء، كما لو أن الزمن قد توقف منذ عقود.
الطريق المؤدية إلى قريتها ضيقة، محاطة بالأشجار الكثيفة التي تمنع الضوء من التسلل.
هنا، في هذا المكان الذي يبدو خاليًا من التغيير، تنمو ماري فتاة شابة، تتطلع بعينين مليئتين بالأحلام إلى أفق بعيد.
لا يعرف أهل القرية سوى الحياة البسيطة التي تتخللها العادات والتقاليد القديمة.
النساء في القرية يعتبرن الزواج هدفًا أساسيًا في حياتهن، ويُنظر إليهن على أنهن مكملات للرجال في المنزل، حيث يقتصر دورهن على الاهتمام بالأسرة والأبناء.
في هذا المجتمع، تُعتبر فكرة التعليم والعمل خارج نطاق المنزل أمورًا غريبة، وتُفرض على الفتاة منذ ولادتها أدوارٌ محددة لا يُسمح لها بالخروج عنها.
لكن ماري لا تتقبل هذا الواقع.
قلبها لا يشبع من التقاليد التي تُفرض عليها.
هي تشعر بأن ثمّة شيئًا أكبر ينتظرها في مكانٍ بعيد، حيث لا يقيدها شيء.
تمر الأيام، ويغرق الجميع في رتابة الحياة اليومية.
يبدأ شعور متصاعد داخل ماري بأنها لا تستطيع الاستمرار في هذا الواقع، وأنها بحاجة إلى شيءٍ أكبر.
وبينما تسير في طرق القرية الضيقة، تتساءل: هل هناك حياة أخرى يمكن أن تعيشها؟ هل هناك مكانٌ يستطيع أن يعبر فيه الإنسان عن نفسه، ويطوّر من قدراته بعيدًا عن القيود التي تكبله؟
تبدأ ماري في مراجعة نفسها، تبحث عن إجابات لتساؤلاتها.
تجد في الكتب التي تصل إليها عبر بعض الأقارب فرصة للهروب من هذا الواقع.
تلتهم صفحات الكتب بكل شغف، وتحاول أن تفتح نافذةً جديدةً على الحياة.
عوالم جديدة، لم تكن تعرفها من قبل.
ويبدأ حلمٌ يتشكل في قلبها: الخروج من هذه الحدود الضيقة.
الحرية التي طالما كانت محجوزة في زوايا عقلها.
تتمكن ماري في إحدى المناسبات من زيارة بيروت، المدينة الكبيرة التي لا تشبه في شيء قريتها الهادئة.
في بيروت، تشهد نمط حياة مختلف، كان يتحدث عنها البعض، حيث يعيش الناس بحرية، ويحققون ما يريدون بعيدًا عن أي قيود.
ترى النساء في بيروت يعملن في مختلف المجالات، سواء في المحلات التجارية أو المؤسسات الثقافية، ولا تكاد تجد واحدة ترضخ للقيود التقليدية التي تحكم حياتها في قريتها.
وبينما تعيش ماري تلك اللحظات، وتتنفس هواء المدينة التي تحمل وعدًا بالتحرر، تعود إلى قريتها، فتجد نفسها محاصرة في ذات الحياة التي كانت تحاول الهروب منها.
في بيتها، يتسارع الزمن، ويُفرض عليها قرارٌ جديد: الزواج.
تقدم إليها عائلة شابٍ من البلدة القريبة عرضًا للزواج، وهو ما يتوافق مع التوقعات التي ينتظرها الجميع.
تتساءل ماري في أعماقها: هل هذا ما كانت تأمل فيه؟ هل تقبل بهذه الحياة التي لا تقدم لها سوى الاستسلام لما يحدده المجتمع؟
تقرر ماري أن تواجه واقعًا يُريد أن يطوقها.
تبدأ في العمل على تحقيق حلمها في التعليم، رغم كل التحديات.
تسرق الأوقات بين العمل في المنزل، وتنفقها في دراسة الكتب التي تطالعها بين الحين والآخر.
تحاول أن تجد طريقة لتطوير نفسها، ولتجاوز حدود الحياة التقليدية التي تفرض عليها.
تحاول أن تعلم نفسها المزيد عن الفلسفة، عن الفن، عن الحياة التي لا تُقيدها.
وبينما هي تواصل دراستها سرًا، يبدأ الأهل في محاصرتها أكثر.
يزداد الضغط عليها من قبل أسرتها، التي ترى في تعليم الفتاة أمورًا غير ضرورية.
وتتعالى الأصوات في بيتها مطالبة إياها بالتوقف عن القراءة والاهتمام بالزواج، لكن ماري ترفض أن تستسلم.
هي عازمة على أن تحيا كما تشاء، وأن تكتشف العالم من حولها.
بعد فترة من الصراع الداخلي، يأتي اليوم الذي لا مفر فيه من المواجهة.
يقرر والد ماري، الذي يعدّ أحد الشخصيات التقليدية في القرية، أن يفرض عليها قرارًا نهائيًا بشأن الزواج.
يستدعي بعض الأقارب للحديث عن العرض الذي تقدّم لها، ويشدد على أنه لا يوجد خيار آخر.
لكن ماري تُفاجئهم جميعًا برفضها القاطع.
يُثير هذا الرفض استياءً شديدًا في العائلة.
يُعتبر قرارها بمثابة تمرد على التقاليد التي تُنظم حياة الجميع.
يضغط الجميع عليها لأيام عدّة، لكن ماري تصرّ على موقفها.
لا ترى في الزواج الذي يُفرض عليها سوى قيدٍ جديدٍ، لا يمكنها أن تحياه.
تبدأ ماري في العيش في عزلةٍ شبه تامة.
يُصيبها هذا العزوف عن محيطها بحزنٍ عميق، لكن مع مرور الوقت تبدأ في الشعور بقوةٍ داخلها، قوةٍ نابعةٍ من تصميمها على تحقيق حلمها.
تستمر في دراستها، وتواصل اكتشاف الحياة بعيدًا عن العادات.
ولكن صراعها الداخلي لا يتوقف، فهي تواجه مرة أخرى ضغوطًا اجتماعية تُصعّب عليها طريقها.
مع مرور الزمن، تلتقي ماري ببعض الفتيات اللاتي يشاركنها نفس الطموحات.
يتحدثن معًا عن التحديات التي يواجهنها، ويشجعن بعضهن على مواصلة مسيرتهن في ظل الظروف الصعبة.
تشعر ماري أن هذه اللقاءات تمنحها القوة للاستمرار.
تزداد ثقتها في نفسها وفي قدرتها على التغيير.
تدرك ماري أنه لا يمكنها البقاء في هذا الوضع إلى الأبد.
ومع مرور الوقت، تبدأ في نشر أفكارها بين فتيات القرية.
تجد فيهن دعمًا كبيرًا، وشيئًا فشيئًا يتغير حال القرية.
تبدأ الفتيات في التمرد على التقليدية، ويظهر جيلٌ جديد من النساء يسعين لتحقيق أحلامهن بعيدًا عن القيود.
مع هذا التغيير، تصل ماري إلى نقطةٍ فاصلة في حياتها.
لم يعد بمقدورها العودة إلى الوراء.
تجد نفسها في مكانٍ جديد، مكانٍ يمكنها فيه أن تحقق أحلامها بحرية.
رغم كل الصعاب، بدأت هي وزميلاتها في رسم الطريق للجيل القادم من النساء.
ورغم بطء التغيير، إلا أن ماري تلمح في الأفق شمسًا جديدة، شمسًا تحمل الأمل للمستقبل.