وميضُ الرّجاءِ.
تأليف: أنطوان فضّول.
حين دوّى صوتُ الانفجار، أحسّ وائل أنّ العالمَ ينكمشُ من حوله.
الغبارُ المتصاعدُ غلّف كلَّ شيء، والصّدمةُ مزّقت الزمن.
لطالما أحبَّ الحياةَ بتفاصيلها، لكنّ لحظةَ العمى قلبت المعادلةَ، وحوّلت نهاره إلى عتمةٍ لا تنتهي.
فقد النظر بفعل الإنفجار ولم يَعُد الظّلامُ غياب نور، بل حضرَ كوحشٍ خفيٍّ يلتفُّ حوله، يهمسُ له كلَّ مساءٍ: "لن تُبصِرَ مجددًا.
تساءل في البدء: "أين أنا؟ كيف أستمرّ؟"
لم يجد جوابًا.
مرّت الأيامُ ثقيلةً، تتأرجح بين الرفضِ والقبولِ، بين الأسى والتعلّقِ ببصيصِ أمل.
شيئًا فشيئًا، قرّر وائل ألّا يكونَ أسيرَ هذا الظلامِ.
بدأ يتعرّفُ إلى بيتهِ بلمسِ الجدرانِ، ويكتشفُ الحياةَ عبرَ الأصواتِ، وراح يهمسُ لنفسه: "لن أستسلمَ، مهما طالَ الليل.
"
واجه مدينته من جديد، هذه المرّة بلا أعين.
كان عليه أن يُعيد رسمَ الشوارعِ بذاكرتهِ، وأن يُحاورَ الوجوهَ من نبراتِ الصوت.
صار يقرأُ المشاعرَ من صمتِ الآخرين.
أدرك أنّ فقدان البصرِ ليس أسوأ ما قد يصيبُ الإنسان، بل فقدانُ الشغفِ بالحياةِ هو ما يجب أن يُخشى.
ذات مساء، سمع صوتًا يحملُ صدقًا ونُبلًا، لم يرَ صاحبه، لكنّه أحسّ أنّ الحديثَ معهُ يفتحُ بابًا لم يُطرَق من قبل.
بدا له ذاك الصوتُ مرآةً أخرى، تفتحُ مساراتٍ إلى ما هو أعمق.
في مقهى بيروتيٍّ، وحوله الضجيجُ والزحام، شعر فجأةً أنّ الوحدةَ أقربُ إليه من أيّ وقتٍ مضى.
الناسُ يتحرّكونَ، يضحكونَ، يتبادلونَ النظراتِ، لكنه لم يَعُد يشعرُ بانتمائه إليهم.
هل كانت إعاقتُه عائقًا لهم؟ أم أن جهلَهم بطريقةِ التعاملِ معه هو ما خلق الجدار؟
اقترب منه صوتٌ لطيفٌ وسأله بهدوء: "هل أستطيعُ الجلوس؟"
أجابه وائل بصمتٍ ممتنٍّ.
لم يكن بحاجةٍ للكلماتِ حينها، بل اكتفى بابتسامة دافئة.
الحديثُ الذي تلا ذلك اللقاء فتح في قلبه نافذةً.
إن العزلةُ ليست قدرًا، بل حالةٌ قابلةٌ للاختراقِ بكلمةٍ صادقةٍ أو لمسةِ دفءٍ.
مع الوقت، أصبحت الكلماتُ شُرفاتٍ على العالم.
أصغى إلى الصوت كما لو أنه يرسم به صورةً في الفراغ.
في حديقةٍ عامّة، جلست إلى جواره امرأةٌ غريبةٌ، لكنّ نبرةَ صوتِها حملت دفئًا خاصًّا.
قالت له: "الأملُ والكلماتُ، لا غنى للإنسانِ عنهما.
"
شعر حينها أنّه يرى من جديدٍ، ولكن بقلبهِ هذه المرّة.
لم يَعُد يخشى العزلةَ كما في البداية، بل صار يراها فسحةً للتأمّل.
غير أنّ الليلَ، في بعضِ الليالي، كان يأتيه مُحمّلًا بنوباتِ شكٍّ، لا تُقاومُ بالصّمتِ أو الكتابة.
وفي أمسيةٍ باردة، التقى بصديقٍ قديمٍ، كريم، قال له: "النّاس لا يعرفون كيف يتعاملون مع من فقدوا البصر.
ليس لقسوةٍ، بل لجهلٍ.
"
شعر وائلُ بكلماتِه تخترق أعماقه، فقد لامسته حقيقةٌ لطالما تهرّب منها: شعورُه بأنّه عبء.
لكن كريم أضاف: "قد تكونُ أنتَ الضوءَ.
النورُ ليس في العين، بل في الإحساس.
"
كلماتُه بدّدت شيئًا من عتمةِ القلب.
خاطب وائل أعماقه بالقول: "لن أسمح للظلامِ أن يقيّدني.
"
في يومٍ آخر، سمع صوت اصطدامٍ في الحديقة، فوقفَ مُنصتًا، واعيًا أن الحياةَ تستمرُّ بصخبها، وأن عليه أن يكون جزءًا منها.
عاد إلى المقهى الذي اعتاد الجلوسَ فيه، وهناك نبتتْ في داخله فكرةٌ: ماذا لو كتب؟ لا ليُبهر، بل ليصالحَ ذاته.
لم يكتب من قبل، لكنّه أمسك القلم، وبدأ يسكبُ ما في قلبه.
الكلماتُ لم تكن مرتّبة، لكنها كانت صادقة.
صارت الكتابةُ نَفَسَه، عالمَه الجديد، ووسيلته لرؤيةٍ لا تعتمدُ على البصر.
وذات مساء، قرأ كريم شيئًا مما كتب، وقال له: "هذه الكلماتُ تنبضُ بالحياة.
هي صوتُكَ.
"
تردّد وائل: "لكن هل سيشعرُ الآخرونَ كما شعرتُ أنا؟"
أجابه كريم: "أنت لا تكتبُ ليُعجبوا بك.
تكتبُ لأنَّ الكلماتِ تُضيء لك الطريق.
"
ومنذ ذلك اليوم، لم يتوقّف وائل عن الكتابة.
لم يعد الظلامُ عدوَّه، بل خلفيّةٌ خافتةٌ لبزوغِ نورهِ الحقيقيّ.
لم يكن بحاجةٍ إلى عينيه ليُبصر، بل إلى قلبٍ يرى، وإلى كلمةٍ تُضيء له الطريق.