مغارة جعيتا: لؤلؤة لبنان وجوهرة الشرق الأوسط

مغارة جعيتا، الموقع الطبيعي الأجمل في الشرق الأوسط، حازت، بفضل جهود إدارتها، أرفع الجوائز العالمية ورُشّحت كي تكون إحدى عجائب الدنيا الطبيعية السبع.
يضمّ لبنان في حناياه جمالات طبيعية رائعة من جبال وأودية وأنهار وشواطئ، إلا أن أروعها على الإطلاق تبقى مغارة جعيتا، هذا الكنز الدفين في جوف الجبل الذي تعجز الكلمات عن وصفه والذي يحتوي هذه الفرادة في الهوابط والصواعد والبرادي المدلاة التي نحتها الخالق بإزميله الأزلي.
كيف تكونت مغارة جعيتا ومن اكتشفها؟
جبال لبنان الكلسية تسمح بتسرب المياه إلى داخلها وتسبب على امتداد ملايين السنين في تكوين تجويف هائل في جوفها.
هكذا بدأت تتكون مغارة جعيتا بصواعدها وهوابطها التي احتاج بعضها إلى ملايين السنين كي يتخذ شكله الحالي.
يبلغ طول مغارة جعيتا حوالي 10000 م، وهي تشكّل كهفًا فسيحًا هائلاً يرتفع عن سطح المياه الجارية إلى 108 أمتار وتتميز عن سواها من مغاور العالم، في كونها تتشكل من طبقتين جوفيتين الأولى جافة وهي الأقدم، والثانية مائية يخترقها نهر جوفي هو أحد روافد نهر الكلب ويروي أهل العاصمة بيروت.
مغارة جعيتا ليست كهفًا صغيرًا بل تجويفًا ضخمًا مزخرفًا بأجمل اللوحات الطبيعية، وهي تحتضن أكبر هابط في العالم يبلغ طوله ثمانية أمتار وعشرين سنتمترًا، يتفوق بذلك على الهابط الشهير الموجود في إيرلندا والبالغ طوله الأمتار السبعة.
اكتشفت مغارة جعيتا صدفة على يد المبشر الأميركي تومسون الذي مرّ للصيد في وادي نهر الكلب في السنة 1836.
بعد أربعين عامًا، وبالتنسيق مع مصلحة مياه بيروت، قصدتها بعثة من الجامعة الأميركية بهدف دراسة إمكانية جر المياه من المغارة إلى بيروت. نجح البحاثة في حينه في التغلغل داخلها حتى حدود الألف متر.
تلت هذه الرحلة رحلات استكشافية عديدة نظمتها بعثات أوروبية وأميركية. أما اللبنانيون فلم ينطلقوا في رحلاتهم الاستكشافية إلا بُعَيْد الحرب العالمية الثانية وقد تمكنوا من بلوغ نهاية المغارة عند حدود بلدة داريا قاطعين مسافة 6200 م.
افتتحت المغارة المائية أمام العامة والسيّاح في السنة 1956 أما الجافة ففي السنة 1969.
كيف واجهت مغارة جعيتا تداعيات الحرب اللبنانية؟
تضرر محيط المغارة كثيرًا بسبب الحرب والعبثية أبناء وطن الأرز حين نصبوا الحواجز والمتاريس كي تفصل فيما بينهم وتبادلوا القصف العشوائي في كل الاتجاهات، فدُمّر معظم بناها التحتية ومدخلها الرئيس وتجهيزاتها اللوجستية.
بعد أن عاد السلام إلى الربوع اللبنانية وبهدف تسريع وتيرة إعادة الحركة السياحية وتوفيرًا لأعباء إضافية على مالية الدولة، فارتأت وزارة السياحة توقيع عقد مع شركة "ماباس" ورئيس مجلس إدارتها د. نبيل الحدّاد، أوكلت إليها مهمة إعادة تأهيل المغارة وإدارتها مقابل حصة جيّدة من مداخيلها تصب في خزينة الدولة إلى أن ينتهي العقد المذكور فتسترجعها مع كامل المعدات والإنشاءات مجانًا وبأحسن حال.
عمومًا هي شروط ذكية ولصالح الدولة في الغالب.
بفعل هذا العقد، تخطت المغارة مأساتها ونجحت في أن تتمسك بطائر الفينيق وتحلّق في فضاء العالمية كي تنافس أجمل المواقع الطبيعية على وجه الأرض.
يعمل في المغارة ما يزيد عن المئة شخص غالبيتهم من أبناء المنطقة والجوار وهم يتدربون على حسن استقبال السواح وعلى احترام كل عناصر الطبيعة ورعايتها وحماية صخور المغارة ومنحوتاتها من أي مرض أو أي تأثير سلبي يتأتى من وفرة الزائرين.
تتبع إدارة المغارة نظامًا صارمًا هادفًا إلى حمايتها من كل عبث وتلوث بيئي، وتمنع عنها أية طحالب أو أضرار. كذلك تتشدد في منع أي تسرب كيمائي أو عضوي إلى داخلها حتى أنها لا تستعمل إلا الإنارة الباردة كي تحافظ على معدل ثابت لدرجات الحرارة في الداخل حيث تستقر على 22 درجة صيفًا شتاءً في المغارة العليا و16 درجة في المغارة المائية السفلى.

تاريخ لبنان في مغارة
تشكل مغارة جعيتا مخزونًا علميًا جوفيًا هامًا. هي تسمح لنا خلال دراسة مكوناتها الطبيعية بأن نتعرّف على تاريخ لبنان الجيولوجي ونسبة تساقط الأمطار فيه.
في الواقع، أجرت إدارة المغارة فحوصات مخبرية على إحدى الصخور وأرسلت عينات منها إلى جامعات أميركية وألمانية وبلجيكية للتعرّف، بأسلوب علمي، على عمرها وكيفية تكوينها.
بيّنت نتائج الأبحاث إلى أن بداية تكوين هذه الصخرة تعود إلى 11950 سنة.
هذه الدراسات العلمية سمحت لنا بتحديد تاريخ بدء حضارة الزراعة في لبنان ونسبة الامطار التي تساقطت قبل ثمانية آلاف سنة. إذ إن سرعة نمو الصخرة تتعلق بكمية الامطار المتساقطة.
تستقطب مغارة جعيتا زوارًا من كل الدول والأجناس، فتبهرهم وتدفعهم إلى تمجيد الخالق والتعلق أكثر فأكثر بلبنان وأرضه.
قالت إحدى السيدات الأردنيات عند زيارتها للمغارة في السنة الماضية: إذا كانت الأرض بهذا الجمال والروعة، فكم بالحري هو جمال الجنّة؟!
(إعداد: أنطوان فضّول)