د. جان أبي غانم

في إطار برنامج "أعلام من بلاد الأرز"، تحيّة شكر من أنطوان فضّول إلى الدكتور جان أبي غانم
في عقله المتنوّر، تتجسّد حقيقة حضورنا في فلك هذا العصر.
مواليد وطى الجوز، في السنة 1941، إسمه الأول فيليب أبي غانم لكنّه معروف بجان أبي غانم.
والده بطرس، والدته نجيبة نخول. متأهل من آمال طنب ولهما ولدان: هادي وشادي.
يتقن العربية والفرنسية والإنكليزية والسريانية ويلم بالعبرية واللاتينية واليونانية.
أنجز دراسته بين العامين 1953 و1970 في معهد وجامعة الروح القدس في الكسليك. نال البكالوريا القسم الأول في العام 1962 وحلّ في المرتبة الأولى في لبنان. أتبعها بشهادة البكالوريا القسم الثاني فرع الفلسفة في السنة 1963.
أما تحصيله الجامعي فأنجزه حائزًا الإجازة التعليمية في الفلسفة في السنة 1966 وشهادة في اللاهوت في السنة 1970 ثم الدبلوم في علم النفس في 1977. وكان قد حاز الدبلوم في النظريات الموسيقية والتاريخ الموسيقي في السنة 1966.
إنطلق في مسيرة تمددت على مساحة القرن العشرين، توّجها العطاء اللامحدود للبنان الوطن والرسالة، ولحضارته ومجتمعه، وحاكتها خدمة متجرّدة للثقافة والإنسان، تستمد حركتها من روح الإنجيل المنفتحة على آفاق العصر والمنضبطة في إطار التقاليد البناءة والأعراف النبيلة والسامية.
في فترة فتوته، عاين الوطن الصغير يسلخ عنه ثوب الإنتداب ويرتدي عباءة الإستقلال، فتأثّر عميقًا بهذا التحوّل الذي أعطاه دفعًا نحو ترسيخ القيم الوطنية في داخله، وتقديس الثروة الوطنية وخصوصية لبنان ومزاياه.
محطة الاستقلال كانت محورية في حياته، جعلته من جهة أولى، يغوص في عمق الوجدان الحضاري اللبناني، ومن جهة ثانية، يسلك درب النهضة وريادة الفكر والعلم والثقافة، إيمانًا منه بأن الاستقلال الحقيقي لا يكتمل إلا بتحرير العقل والمنطق.
نشأت على يديه أجيال من الطلاب، أسهموا في تنشيط حركة النهضة في لبنان وتحريرها من أتون الحرب والتخلّف والانحطاط.
تولى في بداية نشاطه الأكاديمي، إدارة معهد الروح القدس – الكسليك. ودرّس التاريخ واللغة العربية والعلوم الطبيعية في السنة 1970 – 1971.
من 1971 حتى 1973، أدار المدرسة المركزية في جونيه. ومن 1971 حتى 1973، درّس الفلسفة العربية في المعهد اللبناني في بيت شباب، هذا الصرح الذي تحوّل إلى عنوان تعزية لكل مصاب وجريح وضحية، ورمزًا من رموز المقاومة الشعبية الحقيقية.
كذلك اهتم بإدارة النشاطات الثقافية والفنية. كما أسس مركز النهضة المسيحية في أنطلياس.
بين العامين 1970 و1974، أسندت إليه إدارة مدرسة سان بازيل في الدكوانة. ومن 1998 حتى 2001 أسس معهد البحر المتوسط للأعمال في دير القيامة في نيو روضة، وترأسه. كما درس تاريخ الأديان ومادة حقوق الإنسان ومادة علم النفس.
طوال مرحلة الحرب وما بعدها، لمع اسمه في حقل التربية والنهضة العلمية والفكرية، وفي السنة 2002 ترأس جمعية الثقافة والفنون وكان أحد مؤسسيها. وبين العامين 2005 و2009، تولى إدارة جامعة AUCE – C$E فرع البوشرية.
تتويجًا لعطاءاته الفكرية والإنسانية وتقديرًا للأبحاث المعمقة والنشاط الثقافي والتربوي والإداري، منحته جامعة أميركية في 2004 دكتوراه شرف في الفلسفة.
إلى ذلك، هو أحد مؤسسي جامعة اللاعنف العربية وهي جمعية أبصرت النور في 2009، ولا تزال قيد التأسيس.
عمل من مواقعه هذه، من أجل التنمية العلمية الصحيحة والنهوض بالفكر وإنقاذ المجتمع لاسيما النخبة فيه، من مستنقع الإهمال والتخلّف والحرمان، جاعلاً من الصرح الجامعي، جسر عبور نحو الحداثة ومواكبة التكنولوجيا، راصدًا كل جديد أنجبه العلم المعاصر. يبقى له أثر كبير في تجديد المناهج وتطوير الأساليب التعليمية وتفعيل دور وموقع المدرسة والجامعة في مسيرة الوطن.
أدخل إلى المناهج المدرسية نفَسًا رياديًا جديدًا صار عنوانًا لحركة إصلاحية تخطت الحدود اللبنانية لتلهم الأنتلجنسيا المشرقية والمدارس العربية.
حياته الفكرية مزيج من حضور في قلب الحدث اللبناني وعبور في إطار التحرر من قيود الواقع المعقّد والضاغط، إلى آفاق المستقبل الواعد والنابض بالحياة.
مع انبعاث الثورة الإعلامية في لبنان في أواسط الثمانينيات وبروز المحطات التلفزيونية والإيذاعية، أخذ اللبنانيون يعتادون على سماع اسمه وصوته ورؤيته إعلاميًا، يملأ أمسياتهم فكرًا راقيًا، مشبعًا بنَفَسٍ وطني وبُعْدٍ ثقافي.
كانت إطلالته الأولى في الإعلام عبر أثير صوت لبنان في برنامج "بيبقى لبنان"، من 1977 حتى 1985 بعدها كتب مئات الحلقات الإذاعية بما في ذلك برنامج تربوي للأطفال. كما قدّم مع أفراد عائلته، عبر إذاعة لبنان برنامجًا ثقافيًا بعنوان "بيحقلي أعرف". كذلك عرض تلفزيون ICN برنامجًا ثقافيًا وروحيًا له بعنوان حكايات النور.
تألق حضوره الإعلامي، ما دفعه إلى توسيع حركته الفنية والثقافية والاجتماعية ناشطًا في العديد من الأندية الأدبية ومشاركًا في إطلاق عدد كبير من المهرجانات والأمسيات في مختلف المناطق اللبنانية. فساهم في تحطيم الحواجز النفسية والجغرافية وإعادة وجه لبنان الحضاري وحقيقته التي طمستها ركام الحرب.
هذه الحقيقة جعلته يتخطى حقيقته كإعلامي ناجح، إذ حولته إلى ثائر على واقع قابض وقائد يمسك بيد الشعب يقوده إلى حيث يكتشف سلمه الأهلي وراحته وفرحه وثقته بنفسه وبمستقبله وهويته.
تربويًا، له دور ناشط في نهضة الواقع التربوي وإخراجه من نفق الحرب ومستنقع التخلف والرجعية والإنحدار. أصدر سلسلة كتب التربية المسيحية من سبعة أجزاء بعنوان طريق المحبة، وأنجز الجزء الأول من مجموعة بيبقى لبنان. وضع بالتعاون مع مركز البحوث والإنماء في وزارة التربية الجزءين الرابع والخامس من كتاب التربية.
كما له مجموعة قصص نشرها دار المفيد: الجار، شادي صديق الله، عصفورة الشميس.
وفي أرشيف جان أبي غانم مجموعة تزيد عن عشرات الأغنيات والأعمال الإذاعية والمسرحية، نذكر منها أسطوانات أدت أغنياتها زوجته الفنانة آمال طنب: هللي يا محبة (عشرون ترنيمة)، الغابة البيضا (إثنا عشر نشيدًا) وقد شاركها في الغناء الفنان مروان مزهر، نهر الحنان (سبع أغنيات – 1985)، أنا من لبنان (10 أغنيات – 1990). بالإضافة إلى أسطوانة طائر الفينيق (5 أغنيات – 1995) غناء الفنانة رونزا، وأسطوانة من ثماني أغنيات للفنانة فاديا طنب، وأسطوانة من عشر أغنيات أداء Tri Orient.
أما في حقل المسرح فأغنى المسرح اللبناني بباقة من الأعمال المسرحية:
هنيبعل في صور – 1964، أجراس بعيدة – 1967، يد الله – 1968، خليك معنا – 1970، الدنيا إم – 1971، درب الياسمين – 1969، أوراتوريو الغابة البيضا – 1983، أوبريت أنا من لبنان – 1993، ومسرحية جبران خليل جبران – 2001.
غاص جان ابي غانم في محيط الفكر الحر، وأبحر في عالم الثقافة ونشط في أكثر من جمعية ذات وجه ثقافي واجتماعي وأدبي، حيث ترك أثرًا عميقًا على جغرافية الوطن الفكرية بكاملها، مسجّلاً حضورًا ملفتًا الإذاعة والتلفزيون والقطاع التربوي.
إمتلك مخزونًا إنسانيًا واجتماعيًا كبيرًا، تولّد نتيجة تعاطيه المباشر والمبكّر مع حاجات مجتمعه. طوال حياته المليئة بمختلف العطاءات، نشط في المسائل الاجتماعية بشكل مباشر، واحتك بقضايا الناس...
إلى ذلك، هو مرب ومسرحي وروائي متمكّن من ناحية الموضوع والأسلوب واللغة، صاحب نظرة عميقة في فهم مجتمعه، وطناً ومواطنًا. ويبقى هاجسه الأول الإنسان، بكل أبعاده الوجودية، كياناً وعقلاً وروحاً.
(إعداد: أنطوان فضّول)