لفظة لبنان لم ترتبط بإتنية أو شعب أو حضارة فقط بل أيضًا وهنا الأساس ارتبطت بموقع جغرافي محدد ومعروف، له ميزاته وخصوصيته وله ارتباط وثيق مع محيطه الإقليمي.
هذا الارتباط المزدوج التكوين تميز بالمتانة والثبات رغم كل التطورات التاريخية والتحولات الإتنية والاجتماعية.
ارتبط لبنان بالجغرافيا في وقت كان الإنسان لا يزال قزمًا في التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة.
منذ البدء وقبل أي بدء تأريخي، أعطى لبنان اسمه لرقعة جغرافية محددة وثابتة ومميزة رسالتها أن تكون قلب الكرة الأرضية النابض والموحد والمحيي.
عوامل كثيرة تعطي لبنان خصوصيته الجغرافية وثوابته التاريخية وكينونته الفلسفية.
من هذه العوامل الأرض والإسم والتواصل التاريخي والمرتكز الحضاري.
للبنانيين تاريخ واحد، يسكنون فوق جغرافيا واحدة، يتفاعلون في مجتمع واحد.
تاريخ لبنان جعل منه خلاصة الحضارات الشرقية وتمازجها مع الحضارات الغربية.
التاريخ اللبناني هو تاريخ تلاقي الحضارات العالمية بأكملها، ظهرت بنتيجته الشخصية اللبنانية المنبثقة من الجميع والمستقلة عن الجميع والمكمّلة للجميع...
لبنان الجديد الذي يجب أن نطمح لبنائه وإعلاء مداميكه هو قمّة نضوج الدول ومرتجى كل الكيانات الدولية الساعية نحو استقرار شعوبها وتعايشهم ووحدتهم...
لبنان الجديد هو خلاصة كل شيء وبداية شيء مشترك ومتكامل ومميّز.
أما الجغرافيا اللبنانية فقد ظهرت نتيجة عاملين أساسيين:
أولاً : اندثار وانهيار ديكتاتوريات القوّة والظلم التي تحكّمت بالمجتمعات البشرية حتى الأمس القريب وقد كلف هذا الأمر اللبنانيين كثيرًا.
ثانيًا : الحاجة لخلق بقعة ديمقراطية حرّة في الشرق الأوسط تلخّص مراحل هذه المنطقة وتثبت قدرة أيديولوجياتها على الاشتراك في رسم وتوطيد أطر السلام والتعايش فيما بينها وبالتالي بين الشعوب كافة.
أما المجتمع اللبناني فقد تشكّل من خليط مجتمعات جسّدت هموم الإنسان الهارب من ظلمة الغابات ووحشة الصحاري وفساد الأنظمة، والساعي لبناء مدنية الكلمة وديمقراطية النظام، ولانبعاث الذات في حريتها وسلامها وإنسانيتها.
هذا المجتمع اللبناني يستمدّ جذوره من أعمق أعماق التاريخ العالمي ويتكوّن من تراكم طبقات حضارية هي خلاصة اختبارات أجيال من اللبنانيين، سجّلت بدمائها تاريخ ظهور الحضارات وتواجهها فتضاربها ثم تمازجها.
هنا تكمن خصوصية المجتمع اللبناني وميزته.
فالمسيحية اللبنانية تبقى مسيحية ولكنّها ذات صبغة خاصة ووجه خاص، خبرتها الحضارية تغني الحضارة المسيحية العالمية وتساعدها على تخطي كافة الحواجز والتأكيد العملي على واقعية المسيحية وعظمتها وعالميتها... إن المسيحية اللبنانية هي قمة نمو المسيحية وسر حيويتها وعظمتها وعالميتها.
وهكذا قل عن الإسلام اللبناني، والشيوعية اللبنانية والعلمانية اللبنانية والليبرالية اللبنانية وحتى الأصولية اللبنانية...
تميّزت الأمة اللبنانية بتعددية مصادر حضارتها واختلاف أيديولوجيات أبنائها...
هذه الحقيقة رغم أهميتها ومكامن غناها جُيِّرَت لترسيخ الإنقسام والشرذمة في الكيان اللبناني، مما أدّى إلى رسم لُبَيْنَنات متعددة داخل لبنان. فأصبحت للتاريخ اللبناني صيغ مختلفة وتحديدات متناقضة ومصادر متضاربة، مع أن الحدث التاريخي حدث واحد لا ازدواجية فيه، وهكذا المجتمع اللبناني أضاع هويته وجذوره ومعنى وجوده وقيمة حضوره الدولي.
لا يجوز أن نستغل ولادة الجمهورية اللبنانية على أنقاض السلطنة العثمانية نتيجة اتفاقية سايكس بيكو لندّعي بعدم أحقية وجود الكيان اللبناني كحقيقة قائمة بذاتها تتجسّد فيها روح الأمة اللبنانية.
ولادة هذه الجمهورية البكر والتي احتفلت بيوبيلها المئوي لا تعني مطلقًا أن لبنان ما هوى سوى بدعة رسمها الاستعمار.
كل دول العالم بكبيرها وصغيرها رسمت حدودها الجغرافية منذ زمن ليس ببعيد.
تذوّق لبنان نكهة العيش المشترك منذ دخول الإسلام إلى أرضه حيث وجد جماعة مسيحية كبيرة تنتشر بتجذر وقوة.
بدأ الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان منذ تلك الحقبة، واختبر لبنان عبر تاريخه مختلف مراحل هذا الحوار الحضاري. لهذا السبب يمتلك اليوم خبرة طويلة ومعرفة عميقة في هذا الحقل.
الصراع المسيحي الإسلامي عبر التاريخ في لبنان كان صراعًا بين جماعة تلوذ في هذه الجبال الوعرة، وبين جيوش وسلطات غزاة.
لم يكن بغالبيته صراعًا مسيحيًا إسلاميًا داخليًا ببعد عقائدي. بل على العكس نجح اللبنانيون بمختلف طوائفهم في التغلب على المؤثرات الخارجية وبعد كل جولة تَدَخُّل من الخارج بشؤونهم، تمكنوا من الالتزام بالتعايش عبر ما كانوا يطرحونه في كل مرة من صيغة تعكس إرادة العيش المشترك.
لبنان كان دومًا جسر عبور ولغة تخاطب، وسيبقى قلبًا حيًا بشطريه، المقيم والمغترب، المسيحي والمسلم، ينبض في الأرض، يحييها... وستبقى عروقه الممتدة في كل أنحاء العالم روافد خير تزرع الدنيا سلامًا وأخوّة ونهضة.
ثقافتنا اللبنانية رسالة سامية تبث شعاعها داخل المجتمعات العربية والعالمية كافة.
هي انعكاس لوطن الحريات وحقوق الإنسان وهي ترجمة لدولة قوية سيدة حرة مستقلة بكيانها وبقراراتها.
''تتمثل رسالة لبنان بأن يحضن العائلات الروحية ويؤمن لها المناخ المناسب كي تعيش حرة، متساوية، متعاونة، متفاعلة. ر
هي التعددية ميزة لبنان، في نجاحها أمثولة للأمم والشعوب والأديان، وخدمة للبشرية.
من عمق هذه الرسالة نكتسب ثقافتنا الإنسانية وأهمية وجودنا في الزمن والمكان والواقع.
صحيح أن الحرب اللبنانية وتداعياتها شوّهت هذه الصورة التي طبعت لبنان لقرون، لكن الحضارة لا تحدد بمرحلة ولا تعنونها بضع سنوات.
الشعب اللبناني لا يزال بمجمله يعاني من تقسيم داخلي، لأن فكرة لبنان الوطن لم تنضج عنده بعد. السبب في ذلك لا يعود إلى جوهر لبنان إنّما إلى ظواهر عديدة يتأثر بها الشعب اللبناني.
المذهبية والطائفية تسبق المواطنية في الأولويات، بشكل عام، مع العلم أن المذهبية والطائفية هما من أركان الشخصية اللبنانية. فلماذا لا يسيران معًا وبنفس الزخم مع المواطنية اللبنانية إن لم نقل لا يحتلان المرتبة الثانية بعدها؟
بناء الوطن، مشروعًا وكيانونة ومجتمعًا، يتم نسجه وإتمامه خلال فترة السلم. ر
لبنان دخل السلام الأهلي منذ عقدين، لكنه وحتى تاريخه لم يستثمر هذا السلام في بناء وطن عصري ومحصن.
(بقلم: أنطوان فضّول)'>