لبنان عبر التاريخ

بقلم أنطوان فضّول
الفصل الأول
لبنان، اسم جغرافي أُطلق منذ القدم على منطقة جبلية محاذية لساحل بلاد الشام.
ويعود أصل اللفظة إلى الجذر السامي "لبن"، الذي يعني البياض، في إشارة واضحة إلى الثلوج التي تكسو القمم اللبنانية شتاءً، مما يجعلها تبرز بوضوح عن محيطها.
أما بلاد الشام، فهو الاسم الذي أطلقه العرب، على الأقل منذ القرن الرابع أو الخامس للميلاد، على الرقعة الممتدة من نهر الفرات شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا، ومن تخوم الأناضول عند جبال طوروس شمالًا إلى حدود سيناء ومشارف الحجاز ورمال النفوذ جنوبًا.
وكان العرب الأقدمون يميزون بين مواطنهم الشامية (أي الشمالية) ومواطنهم اليمنية (أي الجنوبية)، وكان الحد الفاصل بينهما هو رمال النفوذ وما يليها من البادية شرقًا وغربًا.
لم يكن لبلاد الشام في البداية اسم جامع يُعرَف به، واستمر الأمر كذلك حتى قدم الإغريق، ثم تبعهم الرومان، فأطلقوا عليها اسم سوريا، المأخوذ من اللفظة الإغريقية Assyria، أي آشور.
وقد كان هذا الاسم يُطلَق في الأصل على المناطق الشمالية من بلاد الشام التي خضعت في زمن سابق للدولة الآشورية، التي تمركزت في شمال العراق.
غير أن الإغريق والرومان عمّموا اسم الجزء على الكل، كما استحدثوا تسميات أخرى لتمييز بعض المناطق داخل بلاد الشام، فأطلقوا اسم قيليقية (Cilicia) على السهل الساحلي الممتد بين جبال طوروس وجبل الأمانوس، وفينيقيا (Phoenicia) على الساحل الممتد جنوب قيليقية حتى سفوح جبل الكرمل، وفلسطين (Palestina) على المناطق الساحلية والجبلية الواقعة جنوب سفوح جبل الكرمل، وأُطلِق على وادي نهر الأسود ووادي نهر العاصي وربما أيضًا وادي نهر الليطاني، الممتد شرقًا من قيليقية وفينيقيا، اسم "سورية المجوفة" (Coelesyria).
أما المرتفعات المقابلة لفلسطين، والتي تقع عبر غور نهر الأردن والبحر الميت وبادية وادي عربة، فقد سُمّيت "العربية الصخرية" (Arabia Petraea)، بالإضافة إلى العديد من التسميات التفصيلية الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها هنا.
كان الإغريق والرومان يطلقون اسم "العربية" (Arabia)—ومنها "العربية الصخرية" المذكورة—على جميع الأراضي التي اعتبروها آنذاك جزءًا من بلاد العرب، وهي تمتد من بادية الشام في الشمال إلى أقاصي ما عُرِف لاحقًا بـ الجزيرة العربية في الجنوب.
أما لفظة "عرب"، فمن المرجح أنها تعني "شعب" أو "مجموعة قبائل"، وهي كلمة مشتركة بين اللغات السامية، أُطلِقت في الأصل على الناطقين باللهجات العربية من قبائل البادية المحيطة برمال النفوذ.
وربما كانت هذه البادية الموطن الأساسي ليس للعرب فحسب، بل لمختلف الشعوب الناطقة باللهجات السامية، ومنها الأمورية والكنعانية والآرامية والعربية.
الانتساب إلى "السامية" يعود إلى سام بن نوح، المذكور في سفر التكوين من التوراة، باعتباره الجد المفترض لجميع هذه الشعوب.
وقد كان العرب آخر الشعوب السامية التي خرجت من البادية، إذ بدأ نزوحهم الكثيف إلى الحواضر المجاورة، في بلاد الشام والعراق، وإلى المناطق الجبلية والساحلية في الجزيرة العربية، خلال فترة حكم الإغريق والرومان في المشرق.
ومن هنا، اشتقّ الإغريق والرومان اسم الأرض من اسم الشعب، وعمّموه على جميع المناطق التي استوطنها العرب.
أما فيما يخص لبنان، ونظرًا إلى التكوين الجغرافي الذي عرَفه الإغريق والرومان باسم "سورية"، وأطلق عليه العرب اسم "بلاد الشام"، فإن المنطقة اللبنانية تشكّل، من الناحية الجغرافية، الجزء الأوسط من الأطراف.
من الناحية الجغرافية، تشكّل المرتفعات الغربية لبلاد الشام حاجزًا طبيعيًا يفصل بين الساحل والداخل، حيث تعمل هذه السلسلة الجبلية على اعتراض الجزء الأكبر من الأمطار التي تحملها الرياح الغربية في فصل الشتاء، مما يؤدي إلى قلة الأمطار الواصلة إلى المناطق الداخلية.
ويتميز القسم اللبناني من هذا الحاجز الجبلي بكونه الأعلى والأكثر منعة، مما يجعل السفوح اللبنانية، ولا سيما الغربية المطلة على البحر، من أكثر مناطق بلاد الشام نقاءً وأوفرها بالمياه.
ومن اللافت أن معظم الأنهار التي تروي المناطق الداخلية في بلاد الشام، مثل العاصي، الليطاني، الأردن، بردى، والأعوج، تنبع إما من جبل لبنان أو من سفوح جبل سنير وجبل حرمون، المقابلين لجبل لبنان من الشرق.
وكان الإغريق والرومان يطلقون على جبل سنير اسم "أنتي-لبانوس" (Anti-Libanus)، أما جبل حرمون فهو ما يُعرف اليوم بـ جبل الشيخ.
لا شك أن وفرة المياه في الأطراف الغربية من بلاد الشام شكّلت منذ أقدم العصور عاملًا أساسيًا في اجتذاب الهجرات البشرية من البادية، لا سيما من الشعوب السامية.
والدليل على ذلك أن أسماء الأماكن في هذه المناطق، بما في ذلك لبنان ومعظم القرى والمدن الفينيقية، تعود في أصولها إلى اللغات السامية، سواء كانت أمورية، كنعانية، آرامية، أو عربية.
ويبدو أن الشعوب الناطقة بهذه اللغات خرجت تباعًا من البادية، فاستقر كل منها في إحدى المناطق المزدهرة حضاريًا، سواء داخل العراق، أو في أطراف بلاد الشام، أو في المناطق الجبلية والساحلية العريقة في الجزيرة العربية.
أما العرب، فقد كانوا آخر الشعوب السامية التي غادرت البادية، وذلك خلال القرون الأربعة أو الخمسة التي سبقت الميلاد.
مع تزايد الهجرات العربية من البادية، لم يلبث العرب أن انتشروا في مختلف الاتجاهات، فاستقر بعضهم جنوبًا في الحجاز وبلاد حمير، التي تشمل اليمن، حضرموت، ظفار، عمان، وساحل الأحساء، الذي كان يُعرف قديمًا باسم "البحرين"، وهو الاسم الذي أُطلق لاحقًا على جزيرة أوال المقابلة لهذا الساحل.
بينما توجه آخرون نحو العراق، حيث استقروا في منطقة السواد على ضفاف الفرات، في حين نزح قسم منهم باتجاه بلاد الشام، متغلغلين في جبالها وأوديتها حتى وصلوا إلى الساحل.
ويُرجّح أن هذه الهجرة العربية الواسعة النطاق بدأت في القرن الأول الميلادي، بعد أن أحكم الرومان سيطرتهم على المشرق.
وبحلول القرنين الرابع والخامس الميلاديين، كان العنصر العربي قد أصبح مهيمنًا في أجزاء واسعة من بلاد الشام، بما فيها مناطق من لبنان، في موازاة تعريب مساحات شاسعة من العراق، فضلًا عن انتشار العربية في معظم الحواضر الكبرى في الجزيرة العربية.
ومن هنا، فإن تعريب بلاد الشام لم يكن نتيجة الفتوحات الإسلامية فقط، بل جاء نتيجة حركة سكانية طويلة الأمد، حيث تعرّبت الجزيرة العربية والعراق والشام بالتزامن، وذلك قبل ظهور الإسلام بقرون.
ونتيجة لهذا النزوح العربي الكثيف خلال القرون الخمسة الأولى بعد الميلاد، بدأت اللهجات العربية بالانتشار على نطاق غير مسبوق، لتتفوق على سائر اللهجات السامية التي كان سكان هذه المناطق يتحدثون بها.
ففي جنوب الجزيرة العربية، حلت العربية تدريجيًا محل اللهجات الحميرية والمهرية، في حين تراجعت اللهجات الآرامية أمام المدّ العربي في مناطق شاسعة من العراق وبلاد الشام.
وقد بدأت اللهجات العربية بالامتزاج باللهجات الآرامية، وربما بغيرها من اللغات السامية الأقدم، في العديد من الأرياف والمدن، مما مهّد لاحقًا لهيمنة العربية كلغة رئيسية في هذه المناطق.
مع توسّع العرب في العراق وبلاد الشام، أطلقوا على الناطقين باللهجات العربية المختلطة مع الآرامية اسم "البَطّة" أو "النبيط" أو "الأنباط"، وهي فئات من الفلاحين والساكنين في الأرياف.
ويبدو أن هؤلاء كانوا يشكّلون الطلائع الأولى للعرب المولَّدة، أي العرب الذين انتقلوا مبكرًا من حياة البداوة إلى الحضر، لا سيما بعد القرن الأول الميلادي.
وقد استقر هؤلاء في الأرياف الشامية والعراقية، تاركين وراءهم حياة الرعي، وانصرفوا إلى الزراعة، والتجارة، والصناعة، والملاحة، حتى انقطعت صلاتهم القبلية بالجذور العربية التي انحدروا منها.
ومع اقتراب القرنين الخامس والسادس الميلاديين، ظهرت اللغة العربية الفصحى كلغة أدبية راقية تجمع بين عرب البادية والأنباط والعرب المستعربين في الأطراف.
فقد أصبحت العربية الفصحى لغة الخطابة في المناسبات الرسمية ووسيلة لنظم الشعر والقصائد الرفيعة.
وفي المقابل، كانت السريانية تمثّل الفصحى للآرامية، وكانت لغة الطقوس الدينية في العراق وبلاد الشام، وربما امتدّ تأثيرها إلى بعض مناطق الجزيرة العربية.
أما عن بداية استقرار العرب في الأطراف الشامية، فلا تتوفر معلومات مؤكدة، غير أن بعض أسماء المناطق التي كانت معروفة منذ العصور الإسلامية الأولى توضح جزءًا من هذا المشهد.
ومن أبرز هذه الأسماء: جبل عاملة في الجليل الأعلى، وجبل بَهْراء (المعروف اليوم بجبل العلويين بين الكام ولبنان)، ووادي تيم الله بن ثعلبة (المعروف اليوم بوادي التيم) الواقع عند السفوح الغربية لجبل حرمون.
والمعروف أن "عاملة" و"بَهْراء" و"تيم الله بن ثعلبة" هي أسماء لقبائل عربية يمنية، ما يعكس تأثير الهجرات العربية الجنوبية على التوزيع السكاني في هذه المناطق.
استمرّ حضور قبائل ثعلبة في بعض المناطق المجاورة لوادي تيم الله بن ثعلبة، محتفظين باسمهم القديم حتى أواخر القرن الثالث عشر الميلادي على الأقل.
وتشير المصادر التاريخية إلى وجودهم في تلك الفترة، كما ورد في كتاب "تاريخ بيروت" لصالح بن يحيى، حيث ذكر ابني ثعلب في مشغَرَة الواقعة على السفوح اللبنانية المطلة على أسفل البقاع، والقريبة من وادي التيم، وذلك في أخبار عام 1288م.
وكذلك جاء ذكر "أمير ثعلبة" و"العربان الثعالية" في مشغَرَة في كتاب "تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور" لابن عبد الظاهر.
ومن الشواهد التاريخية التي تؤكد قِدم الوجود العربي في بلاد الشام الممالك النبطية التي نشأت في الجنوب، لا سيما مملكة الأنباط في البتراء، المعروفة في الأصل باسم "سلع"، وهي كلمة تعني الشقوق الصخرية.
كما برزت مملكة تدمر الواقعة بين حمص والفرات، واسمها مستمد من الجذر السامي "دَمَر" بمعنى الصخر، أما اسمها الروماني "Palmyra" فإشارة إلى نخلها.
وقد سيطر ملوك الأنباط في البتراء على أجزاء واسعة من جنوب بلاد الشام، بما فيها دمشق، وبلغ نفوذهم ذروته في بدايات الحكم الروماني.
ثم جاء دور ملوك تدمر، حيث تمكنوا خلال حكم الزبّاء (زنوبيا)، في أواخر القرن الثالث الميلادي، من مدّ سيطرتهم على المناطق الشامية الشمالية، ونقلوا عاصمتهم لفترة إلى حمص في وادي العاصي.
ولم يمضِ وقت طويل حتى برز ملوك الغساسنة من بني جفنة، وهم عرب أقحاح من اليمن، فتمكّنوا من السيطرة على كامل البلاد التي كانت تحت حكم الأنباط في البتراء، مؤسسين مملكة قوية في بلاد الشام، كان لها تأثير كبير في التاريخ العربي والإقليمي.
يبدو أن مناطق الجليل الأعلى، ووادي التيم، وسهل البقاع، وكذلك الأجزاء الجنوبية من جبل لبنان، كانت جميعها خاضعة في العهد الروماني لحكم ملوك الأنباط في البتراء، ثم انتقلت لاحقًا إلى سيطرة ملوك الغساسنة.
وهذا يشير إلى أن معظم سكان هذه المناطق كانوا في ذلك الوقت إما من الأنباط أو من مزيج بين الأنباط والعرب الأقحاح.
أما انتشار المسيحية في بلاد الشام، فقد بدأ في عهد الرسل خلال القرن الأول الميلادي، وتوسعت رقعتها تدريجيًا لتشمل مختلف الأقطار، ومنها الجزيرة العربية.
ومع تحول الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع الميلادي، ابتداءً من عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير (306-337م)، الذي نقل عاصمته من روما إلى القسطنطينية، أخذت المسيحية تغلب على كافة أرجاء الدولة الرومانية.
وعند نهاية هذا القرن، وفي عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير (379-395م)، أصبح الدين المسيحي الديانة الرسمية في البلاد، بما فيها بلاد الشام، فاعتنقه العرب والأنباط، كما دان به الآراميون وبقايا الشعوب القديمة المنتشرة في المنطقة.
في تلك الفترة، أصبحت السريانية، وهي الشكل الفصيح للآرامية، اللغة الطقسية الرسمية للكنيسة، بينما استمر العرب والأنباط والآراميون في التحدث بلغاتهم الخاصة كلغات محكية.
ومن المحتمل أن التفاعل المستمر بين هذه المجموعات فرض عليهم استخدام العربية والنبطية والآرامية معًا في كثير من الأحيان، مما ساهم في تمهيد الطريق أمام الانتشار السريع للغة العربية بعد الفتح الإسلامي، حين اكتمل بسط سيطرة العرب على بلاد الشام.