بابنيانوس وأولبيانوس

عند كتابتهم للتاريخ الرومان، نادرًا ما يتوقف المؤرخون عند سيرتي بابنيانوس وأولبيانوس، رغم أن الحضارة الإنسانية برمتها مدينة لفكرهما وتشريعاتهما وآرائهما الفقهية. بابنيانوس وأولبيانوس علمان عالميان جمعهما أصلهما اللبناني ووحّدهما استشهادهما من أجل حرية الرأي والحق والخير. قُتل الأولُ بأمر من الإمبراطور كركلا والثاني على يد الجند. لكن الموت لم يغيب ذكرهما، فمؤلفاتهما التي اعتمدتها مدرسة بيروت وسائر المدارس الرومانية في تلك الأزمة خلّدت ذكرهما وحفظت مآثرهما، فتربت على مبادئهما الأجيال من طلاب التشريع والقانون في الإمبراطورية الرومانية. إلى أن جاء عهد جوستنيان فدوّن مآثرهما في الحق والحقوق والتشريع. إميل بابنيانوس ودوميسيوس أولبيانوس جمعا بشخصيهما صفة المشترع ورجل الدولة. فالمشترع بعلمه تسند إليه أرفع المراكز ويرف إلى أعلى المراتب. ورجل الدولة يعتصم بالحق والعدل والصدق ويتفانى في خدمة دولته والشعب. أما ولادة بابينيانوس ففي بيروت، دون شك، رغم أن أصل والده اللبناني لم يلق إجماعًا بين المؤرخين. في حين يرى البعض أن ولادته كانت في مصر وكان يشغل منصب كبير أحبار معبد الشمس، جاء شارل قرم وفايز الخوري وسواهما ليتمسكا بأصله البيروتي ويحددا تاريخ مولده في السنة 142 إستنادًا إلى اكتشافات ووثائق أثرية درسها الأب جيلابر في السنة 1906 وكتابة أخرى عثر عليها في مدينة زيلليهوسن في بتافيا تؤكد أصل عائلة بابنيانوس سنتيا البيروتي وولادة إميل بابنيانوس في بيروت. أما بابنيانوس فتدرجّ في الوظيفة العامة من مدع عام في عهد القيصر ماركوس أورلوس ، إلى مستشار لمحافظ ديوان الإمبراطورية، إلى أمين سر الأوامر الإمبراطورية، قبل أن يُعَيَّنَ محافظ الديوان الإمبراطوري وهي الوظيفة الأكبر، ممسكًا بيديه قيادة جيوش إيطاليا وروما ونيابة الإمبراطور في آن. وقد أعطي أن يترأس مجلس الإمبراطور في غيابه وأن يفصل في الدعاوى التي تستأنف إلى الإمبراطور من غير تقيُّد بالأصول وأن يستأثر ببعض صلاحيات قضاة البريتور. أما سلطته فامتدت إلى كل أطراف الإمبراطورية. كانت ثقة الإمبراطور سبتيم سيفر به تامة وكان يستشيره حتى في المسائل العائلية الخاصة. وعندما بدأ النفور يستحكم بولديه كركلا وجيتا، حاول أن يعيد نسج الروابط الأخوية بينهما برعاية مستشاره المخلص رجل العلم والدولة والحق بابنيانوس. وقبل وفاته، طلب منهما التمسك بالتضامن والوحدة. وأوصى بابنيانوس برعايتهما. لكن كركلا ثار على وصية والده، فأمر الجند بقتله وهو بين يدي أمه جوليا دمنة، ثم قضى على نحو من عشرين ألف من أنصار أخيه. ودافع عن فعلته أمام مجلس الشيوخ مدعيًا أنّ ثمة محاولة اغتيال أراد أن يستدركها. وعندما رفض بابنيانوس تبرير جريمته أمام مجلس الشيوخ، أمر بقطع رأسه دون رحمة. فكان أن استشهد بابنيانوس استشهاد العظماء في التاريخ.
أما أولبيانوس فصوري من لبنان القديم، ولد في صور كما يذكر في مؤلفاته. ما يدحض أي شك أو تخمين أو اجتهاد. إستدعاه بابينيانوس وعينه مستشارًا. وفي عهد سبتيم سيفر وكركلا رفّع إلى وظيفة حافظ للأختام وأمين سر المراسيم الإمبراطورية. لكن هاليغابال أبعده عن الوظائف العامة لفترة ثم أعاده بطلب من جوليا مازه جدّته، فعينه بادية، معاونًا لمحافظي الديوان الإمبراطوري فلافيانوس وكريستوس، قبل أن يحل محلهما في محافظة الديوان ويصير كبير النفوذ في عهد الإمبراطور اسكندر سيفر الذي كان يدعوه أبًا ومستشارًا. كثرت المؤامرات والفتن في عهد اسكندر سيفر، كما في العهود الإمبراطورية التي سبقته أو لحقت به. ونشطت محاولات اغتصاب العرش. لكنّ الأخطر كان في ذاك العصيان الذي قام به الحرس الإمبراطوري في روما في السنة 228، والذي تحوّل حربًا أهلية بين الحرس والشعب. وقف أولبيانوس إلى جانب الشعب ودعم حقوقهم فغدر به الحرس وقتلوه وعجز الإمبراطور عن إنقاذه. لكنه عاد وانتقم له من قاتله بعد حين. بموته فقد الشعب الروماني عضدًا ومدافعًا عن حقوقه، فكان شهيد المبادئ والرحمة والحق. إن الأهم في شخصية بابينيانوس وأولبيانوس أنهما مشترعان. بفضل هذا الدور وتلك الرسالة بلغت شهرتهما أقاصي الأرض وخلدهما التاريخ وسمت بهما الحضارة. في الكتابة، اشتهر بابنيانوس بأسلوبه الدقيق وبعمق أفكاره ووضوح عباراته، وقد وضع موسوعته "الأسئلة" المؤلفة من سبعة وثلاثين جزءًا، أتبعها بموسوعة "الأجوبة" المؤلفة من تسعة عشر كتابًا. في السنة 426، كتب تيودوس الثاني وفالنتنيان الثالث كتابهما المشترك "قانون الأسناد"، حددا فيه لائحة المتشرعين الذين يمكن الإستناد إلى آرائهم في القضاء والفقه، ومما أورداه أنه عند اختلاف الآراء بين المتشرعين يرجح رأي بابنيانوس. أما أولبيانوس فيعتبر من تلامذة بابنيانوس. صحيح أنّه لم يجاره في سعة الإطلاع والعلم ومتانة الفقه. كما أنه لم يتمتع بمثل شخصيته القوية. إلا أنّه ألف كتبًا أكثر مما ألّفه أستاذه. عدا كتبه عن الإجتهاد ومؤلفاته الستة في المخاصمات، وكتب التعليم في الدساتير، ألف شرحًا يقع في واحد وثمانين كتابًا للائحة الدائمة، أتبعه بشرح آخر يقع في واحد وخمسين كتابًا للحق المدني، بسّط فيه القواعد العامة لمجموع الحق الروماني. إن أولبيانوس هو من علّم أن أول مبادئ الشريعة أن يعيش الإنسان عيشة شريفة موافقة للأخلاق وأن لا يسيء للآخرين وأن يعطي كل ذي حق حقه. هو من صنف الحقوق فقال بوجود الحق الطبيعي والحق العام والحق المدني. فالحق الطبيعي بالنسبة له مثالي كامل العدالة تخضع له المجتمعات الأولى وقد عدلته الشرائع البشرية عبر الزمن. أما الحق العام فيحتكم إليه البشر سواء كان موافقًا للحق الطبيعي أم غير موافق له. وأما الحق المدني فيطبق على شعب دون سائر الشعوب. بذلك يكون أولبيانوس أول من وضع التحديد المميز بين الحق العام والخاص. بقيت مؤلفات أولبيانوس قرونًا طويلة تُدَرَّسُ في جامعات الحقوق، واعتمدها علماءُ الشرائع الذين كلّفهم جوستنيانوس في القرن السادس جمعَ القوانين الرومانية وتوحيدها استنادًا إلى مؤلفات بابنيانوس وأولبيانوس، التي كانت تدرس قبل جوستنيانوس وبقيت تدرس في عهده وبعد عهده. هذه المؤلفات هي الليبيرالي إيد سوبينيون لأولبيانوس، وأجوبة بابنيانوس، في دستور الأومينيم وهو المقدمة الثانية للديجست، قاموس الآراء الحقوقية، الموضوع في عهد جوستنيانوس. نعلم أن مدة الدراسة في مدارس بيروت وغيرها كانت تستغرق أربع سنوات قبل أن يجعلها تنظيم جوستنيانوس خمسًا. وكان طلاب السنة الثالثة يلقبون بالبابنيانيستي نسبة إلى بابنيانوس. أما ثلث الديجست فمأخوذ من مؤلفات أولبيانوس ومؤلفات جوستنيانوس أوردت له في 2442 فقرة كما أوردت لبابنيانوس 591 فقرة.