حقبة ولادة لبنان الكبير

في صيف 1919، جرى لقاء تاريخي بين رئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمونصو والزعيم الروحي للموارنة البطريرك الياس الحويك، وقد حضر إلى باريس للمطالبة بالإستقلال الذاتي وضم الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان. أبحر البطريرك الحويك من جونيه على رأس وفد من رجال الإكليروس فوق بارجة حربية. حدد الرئيس الفرنسي موعدًا للإجتماع مع الآتي من الشرق وتسلّم مذكرته حول الصيغة المطلوبة للبنان تحت الرعاية الفرنسية. وقف كليمنصو ومدّ يده إلى غبطة البطريرك الحويّك، وأكد للبطريرك أن لبنان سينال منفذًا إلى البحر أسوة بغيره من البلدان. فرد البطريرك مصححًا ما التبس على رئيس وزراء فرنسا وقال: لكن لبنان غني بالشواطئ وكلّه منافذ إلى البحر. فاعتذر كليمنصو لهذا الإلتباس ثم أصغى باهتمام إلى كلام البطريرك. إنحسر المد العثماني إلى حدود تركيا الحالية، وكانت رحلة البطريرك الحويك إلى باريس بمثابة الخطوة الأولى نحو ولادة لبنان الكبير الذي أبصر النور في السنة 1920 تحت إشراف الدولة الفرنسية مفتتحًا مرحلة من الإنتداب الدولي على بلاد الأرز. بمناسبة ولادة دولة لبنان الكبير أقيم احتفال في قصر الصنوبر تصدّره الجنرال غورو أول مندوب سامي فرنسي في لبنان وقد جلس عن يمينه البطريرك الياس الحويك وعن يساره مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا. مع انتقال لبنان وسوريا إلى قبضة الإنتداب الفرنسي إستولى الفرنسيون على إدارة مرافق البلدين. إستفادت طبقة من السياسيين والعسكريين الفرنسيين من هذا الظرف وراحت تنشر نفوذها وتاخذ مكانتها في مواقع القرار إلى درجة صار كل لبناني متخرج من أوروبا أو من غيرها يحتاج إلى ضوء أخضر من المندوب السامي الفرنسي حتى يحصل على وظيفة وإلا فالأبواب مغلقة في وجهه. وكان في واجهة المفوضية العليا مستشار قضائي إسمه الموسيو بواش. وكان المحامي شارل دباس خريج جامعات باريس متزوجًا من فرنسية. فاختاره بواش ليعاونه ويكون همزة الوصل بينه وبين المحامين اللبنانيين وبجهد الرجلين نظمت مهنة المحاماة واختير لرئاسة النقابة المحامي وديع دوماني ولعضويتها المحامون بشارة خليل الخوري وعوني اسحق ونجيب عبد الملك وغيرهم... وكانت لشارل دباس غرفة في المفوضية العليا، ثم لاحقًا في سراي بيروت القديمة وكان موقعها مكان سينما ريفولي في ساحة الشهداء. في أيار (مايو) 1924، جرت الإنتخابات النيابية في فرنسا وفازت كتلة اليسار والراديكاليين الإشتراكيين والحزب الإشتراكي وحلفائهما. إختير "هيريو" لرئاسة الوزارة الجديدة، فأبرق إلى الجنرال "ويغان" يعفيه من مهامه في لبنان وسوريا ويعيّن مكانه الجنرال سيراي وكان شرس الطباع غير حافل بالتقاليد الدينية. أقيم وداع مهيب للجنرال ويغان في مرفأ بيروت، نظّمه جوزف شيحا، وكانت العادة أن يقام احتفال للترحيب بالمفوض العام الجديد. كان نقولا بسترس، رئيس التشريفات السابق في وزارة الخارجية موجودًا في فرنسا فزار الجنرال ويغان في منزله ليقدّم إليه نفسه. وجده يعيش ببساطة وبلا بذخ، إلا أنه كان شرس الطباع، لا تعرف الإبتسامة موقعًا فوق ثغره. فاستقبله بالقول: من أنت وماذا تريد؟ أجابه: علمت بتعيينكم مفوضًا ساميًا لبلادنا فجئت أسلم عليك، وأعرض خدماتي". فرد بالشراسة نفسها: "أخذت علمًا بذلك. وحذار أن يكون لي حفلة تكريم عند مجيئي. أنا ضد حفلات التكريم. تذكر ذلك جيدًا". تحدد يوم الثاني عشر من كانون الثاني (يناير) موعدًا لترشيح الأسماء الثلاثة. كان سيراي يريد إبعاد إميل إده المقرّب من الصرح البطريركي عن المنصب. لكنه لم يعثر على الإسم البديل. فكان يفضل التريث. وبالتالي كان يريد تعطيل الجلسة فأوكل المهمة لأيوب تابت وبترو طراد وشارل دباس. والمسيو روزور. ضرب إميل إده المنصة بمطرقته الخشبية معلنًا بدء الإقتراع للأسماءا لثلاثة. بين النواب تيار يريد اختيار إميل إده. وكان فيه المسيحي والمسلم. فاللعبة الطائفية في بدايات الإنتداب لم تكن نافرة في لبنان. أعلن إميل إده أن الجلسة مخصصة لانتخاب مرشحين لحاكمية لبنان. طلب النائبان أيوب تابت وبترو طراد الكلام. لفتهما إميل إده بأن الجلسة مخصصة للإنتخاب لا للمناقشة. مع ذلك أصرا على الكلام. وأيدهما النائب الجديد يوسف السودا الذي خلف المرحوم نعوم لبكي. وطلب بدوره الكلام. ساد المجلس جو بلبلة. وقف شارل دباس ومعه الموسيو روزور وأعلنا بأن الأصول البرلمانية غير مرعية، ثم يقول دباس وهو يزرر جاكتته علامة الإنسحاب: "إننا ننسحب من الجلسة صونًا لحرمة التقاليد البرلمانية". كان ذلك كافيًا لتعطيل الجلسة ولتفويت فرصة المجيء إلى حاكمية لبنان على إميل إده. وجدها سيراي فرصته فاختار في اليوم الثالث عشر من ذلك الشهر، ليصدر قرارين تاريخيين: الأول بحل المجلس النيابي لطغيان السلبية على جلساته والثاني بعزل الجنرال فان دنبرغ وتسمية ليون كيلا حاكم جبل العلويين خلفًا له. بعد خمس سنوات من إعلان دولة لبنان الكبير، كانت البلاد حاكمية إدارية، وكان الحاكم فرنسيًا يختاره المفوض السامي بالإتفاق مع باريس. يلعب ضمنًا دور رئيس الجمهورية، بينما كان مجلس النظار أو المديرين يلعب دور الحكومة. كان أعضاء هذا المجلس: شارل دباس مدير العدلية، الشيخ محمد الجسر مدير الداخلية، الأمير جميل شهاب مدير المال، نجيب عبد الملك مدير المعارف، ابراهيم حيدر مدير الزراعة، ألفونس أيوب مدير الشؤون الإقتصادية، إدمون بشارة مدير الأشغال، الدكتور يوسف منصور مدير الصحة والإسعاف العام. وانتقلت هذه الحاكمية من الجنرال ترابو في عهد الجنرال غورو، إلى الجنرال فان دن برغ ثم إلى ليون كيلا... بالإضافة إلى مجلس النظار أو المديرين كان هناك مجلس الشورى الذي أنشئ في السادس من أيلول 1924، واختار الجنرال فان دن برغ لرئاسته السيد حبيب باشا السعد رئيس مجلس النواب السابق، بعدما قدم استقالته من مجلس النواب، وانتخب مكانه وديع عقل. ويبدو أن حبيب باشا كان محبوبًا عند جميع الحكام الإداريين الفرنسيين، بدليل أنّه ما إن استتبت المقاليد في قبضتي "كيلا" حتى عيّن حبيب باشا أمين سر عام رئيس مجلس النظار، وهو، مع بعض الفوارق، منصب يساوي الآن منصب رئيس مجلس الوزراء.