مختصر تاريخ لبنان في عشرة فصول

الفصل الأول.
لبنان في عصور ما قبل التاريخ وصولًا إلى الفينيقيين.
يتمتع لبنان بتاريخ عريق يمتد إلى أقدم العصور، حيث كانت أرضه مسرحًا للتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ فجر البشرية.
منذ أن استوطنه الإنسان الأول، لعبت طبيعته الجغرافية المتنوعة، من جباله الشاهقة إلى سهوله الخصبة وسواحله البحرية، دورًا في تطور المجتمعات التي نشأت عليه.
تركت تلك العصور بصماتها في الكهوف والمغارات والمستوطنات التي ما زالت شاهدة على حضارات قديمة سبقت ظهور الفينيقيين، الذين وضعوا الأسس الأولى لهوية لبنان التاريخية.
عصور ما قبل التاريخ.
الإنسان الأول في لبنان.
تشير الاكتشافات الأثرية إلى أن لبنان كان مأهولًا منذ العصر الحجري القديم (500,000 – 10,000 ق.
م)، حيث عثر على أدوات حجرية بدائية في مناطق مثل نهر الكلب وأنطلياس، ما يدل على أن الإنسان الأول استوطن هذه المناطق منذ أقدم العصور.
عاش السكان الأوائل في الكهوف، مثل مغارة جعيتا ومغارة الكسارات، حيث اعتمدوا على الصيد وجمع الثمار.
مع الانتقال إلى العصر الحجري الحديث (حوالي 10,000 – 4,500 ق.
م)، بدأت التجمعات البشرية في الاستقرار، وظهرت الزراعة وتربية المواشي، ما أدى إلى نشوء القرى الأولى.
كشفت الحفريات في مناطق مثل جبيل وعمشيت عن مستوطنات قديمة، حيث استخدم الإنسان الطين لصناعة الأواني، وبدأ ببناء البيوت الأولى.
الانتقال إلى العصر البرونزي وبدايات المدن.
مع حلول العصر البرونزي (حوالي 3,000 – 1,200 ق م)، شهد لبنان تحولات كبيرة، إذ بدأت المدن الأولى بالظهور، وازداد الاعتماد على التجارة مع بلاد الرافدين ومصر.
ازدهرت مدينة جبيل (بيبلوس) كمركز تجاري وثقافي رئيسي، حيث كانت تصدّر خشب الأرز إلى مصر القديمة، الذي استخدمه الفراعنة في بناء السفن والمعابد.
في هذه الفترة، بدأت الممالك الأولى تتشكل على الساحل اللبناني، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي على البحر المتوسط، مما جعلها نقطة وصل بين الحضارات الكبرى في المنطقة.
أصبحت جبيل مركزًا دينيًا وثقافيًا، حيث عبد سكانها الإله بعل، وطوروا مهاراتهم في الملاحة وصناعة السفن.
الفينيقيون.
انطلاق الحضارة البحرية.
مع نهاية العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي (حوالي 1,200 ق م)، برز الفينيقيون كقوة بحرية وتجارية رائدة في المنطقة.
تميز الفينيقيون بقدراتهم الملاحية الفائقة، فأنشؤوا مستعمرات على طول البحر الأبيض المتوسط، من قبرص إلى قرطاج في شمال إفريقيا، وحتى سواحل إسبانيا.
كانت مدنهم الرئيسية، مثل صور وصيدا وجبيل، مراكز تجارية مزدهرة، حيث تخصصوا في تصدير الأخشاب، وصناعة الأصباغ الأرجوانية، والزجاج، والفخار.
يعود لهم الفضل في تطوير الأبجدية الفينيقية، التي أصبحت الأساس للعديد من أنظمة الكتابة الحديثة.
قبل أن يظهر الفينيقيون كقوة تجارية كبرى، كان لبنان قد مر بمراحل طويلة من التطور، من مستوطنات ما قبل التاريخ إلى ممالك العصر البرونزي.
أسهمت طبيعة لبنان الجبلية وسواحله البحرية في تشكيل شخصية سكانه، الذين استغلوا موقعهم الاستراتيجي ليكونوا جسور تواصل بين الحضارات القديمة، ممهدين الطريق لازدهار الحضارة الفينيقية، التي وضعت الأسس لهوية لبنان الثقافية والتجارية عبر العصور.
الفصل الثاني.
الفينيقيون – أسياد البحر وبناة الحضارة.
مع نهاية العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي، برز الفينيقيون كأحد أعظم الشعوب التجارية والملاحية في العصور القديمة، حيث أسسوا شبكة تجارية واسعة، ونقلوا ثقافتهم عبر البحر الأبيض المتوسط، وكان لهم تأثير عميق على تاريخ المنطقة والعالم.
شكّلت المدن الفينيقية الساحلية مراكز اقتصادية وثقافية مزدهرة، وابتكروا الأبجدية التي أصبحت أساسًا لأنظمة الكتابة الحديثة.
في هذا الفصل، نستعرض صعود الفينيقيين، ازدهارهم، إنجازاتهم، وتفاعلهم مع القوى الكبرى التي حكمت المنطقة.
المدن الفينيقية.
مراكز القوة والنفوذ.
تألفت فينيقيا من عدة مدن ساحلية مستقلة، لكل منها حكومتها ونظامها الإداري الخاص، لكنها تشاركت في اللغة، والثقافة، والعادات التجارية.
جبيل (بيبلوس).
تعد واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، وكانت مركزًا رئيسيًا لتجارة الأخشاب، حيث زودت مصر بخشب الأرز، الذي استخدمه الفراعنة في بناء المعابد والسفن.
كما لعبت دورًا في تطوير الأبجدية الفينيقية، والتي انتشرت لاحقًا في جميع أنحاء العالم القديم.
صيدا.
اشتهرت بصناعة الزجاج والعاج، وكانت واحدة من أغنى وأقوى المدن الفينيقية.
شكلت مركزًا مهمًا للتجارة والتبادل الثقافي مع الإغريق والمصريين.
صور.
أقوى المدن الفينيقية وأكثرها نفوذًا، تميزت ببناء أسطول بحري قوي، وأصبحت مركزًا للأنشطة التجارية والاستعمارية الفينيقية، حيث أسست مدينة قرطاج في شمال إفريقيا، التي تحولت لاحقًا إلى قوة عظمى.
الفينيقيون والتجارة البحرية.
شبكات عالمية.
كان الفينيقيون أول من أنشأ شبكة تجارية عالمية تربط بين الشرق والغرب.
أبحرت سفنهم عبر البحر المتوسط، وجلبت المعادن، والفضة، والقصدير من إسبانيا، واشتهروا بصناعة الأصباغ الأرجوانية الثمينة، التي كانت رمزًا للملوك والنبلاء.
أنشأ الفينيقيون مستعمرات تجارية في مختلف أنحاء البحر المتوسط، مثل قرطاج، ومالطا، وقادس في إسبانيا، مما ساعد على نشر ثقافتهم ومهاراتهم في الملاحة، والتجارة، والفنون.
الأبجدية الفينيقية.
إرث حضاري خالد.
يُعد أعظم إنجاز للفينيقيين هو اختراع الأبجدية الفينيقية، التي تكونت من 22 حرفًا، واعتمدت على الرموز الصوتية بدلًا من الرموز التصويرية المستخدمة في الكتابات القديمة مثل الهيروغليفية.
انتقلت الأبجدية إلى الإغريق، ثم إلى الرومان، وأصبحت أساسًا للغات الأوروبية الحديثة، مما جعلها واحدة من أهم إسهامات الفينيقيين في الحضارة الإنسانية.
الفينيقيون تحت حكم الإمبراطوريات الكبرى.
رغم استقلالية مدنهم، لم يكن الفينيقيون في مأمن من الطموحات الإمبريالية للقوى العظمى في ذلك الوقت.
الغزو الآشوري.
في القرن التاسع قبل الميلاد، خضعت المدن الفينيقية للسيطرة الآشورية، حيث فرضت عليها الضرائب وأجبرتها على دعم الحملات العسكرية.
الحكم البابلي.
في القرن السادس قبل الميلاد، سقطت صور بيد نبوخذ نصر البابلي بعد حصار دام 13 عامًا، ما أدى إلى فقدان الفينيقيين لاستقلالهم السياسي.
الإمبراطورية الفارسية.
خضع الفينيقيون للفرس، لكنهم احتفظوا بمكانتهم كملاحين رئيسيين للإمبراطورية الفارسية، حيث استخدمت سفنهم في الحملات العسكرية ضد الإغريق.
الإسكندر الأكبر.
في عام 332 ق.
م، شن الإسكندر المقدوني حملة ضد صور، ونجح في السيطرة عليها بعد حصار دام سبعة أشهر، مما أنهى استقلال المدن الفينيقية، وأصبحت جزءًا من العالم الهلنستي.
تأثير الفينيقيين على الحضارات الأخرى.
لم يقتصر تأثير الفينيقيين على التجارة واللغة، بل امتد إلى الفنون، والهندسة، والملاحة.
فقد نشروا معرفتهم بالسفن المتطورة، وتقنيات البناء، والتجارة الدولية، وساهموا في تعزيز التبادل الثقافي بين الحضارات القديمة.
مثّل الفينيقيون ذروة الإبداع التجاري والثقافي في العصور القديمة، فكانوا بناة حضارة بحرية عالمية، تركت بصمة دائمة في التاريخ الإنساني.
ورغم سقوطهم تحت سيطرة الإمبراطوريات الكبرى، إلا أن إرثهم استمر عبر الأبجدية الفينيقية، وإنجازاتهم التجارية، والمستعمرات التي أسسوها، مما جعلهم أحد أكثر الشعوب تأثيرًا في تاريخ الشرق الأوسط والعالم.
الفصل الثالث.
لبنان في العصر الهلنستي والروماني – من التأثير اليوناني إلى الازدهار الروماني.
بعد سقوط المدن الفينيقية تحت حكم الإسكندر الأكبر عام 332 ق م، دخل لبنان مرحلة جديدة من تاريخه، حيث أصبح جزءًا من العالم الهلنستي، متأثرًا بالثقافة الإغريقية التي حملها الإسكندر وجنرالاته من بعده.
مع سيطرة الرومان على المنطقة لاحقًا، ازدهرت مدن لبنان تحت حكمهم، وأصبحت مراكز حضارية وتجارية مزدهرة.
في هذا الفصل، نستعرض تأثير الحضارتين اليونانية والرومانية على لبنان، والتغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدها، والإنجازات التي حققها في هذه الفترة.
لبنان في العصر الهلنستي (332 – 64 ق م).
مزيج من الفينيقية والإغريقية.
بعد وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 ق.
م، انقسمت إمبراطوريته بين قادته، وكان لبنان جزءًا من الصراع بين السلوقيين في سوريا والبطالمة في مصر.
التأثير الإغريقي.
خلال الحكم السلوقي، انتشرت الثقافة اليونانية في مدن لبنان، حيث تم إنشاء معابد ومسارح ومدارس على الطراز الإغريقي، وبدأ السكان يتبنون اللغة والعادات اليونانية.
مع ذلك، احتفظت المدن الفينيقية بهويتها التجارية والبحرية القوية، ما جعلها تلعب دورًا في التجارة بين الشرق والغرب.
الاستقلال النسبي للمدن الفينيقية.
رغم خضوع لبنان للسلوقيين، إلا أن مدنه مثل صور وصيدا وجبيل تمتعت باستقلال نسبي، وواصلت ازدهارها الاقتصادي، مما جعلها مراكز تجارية حيوية في البحر المتوسط.
التوترات والصراعات.
شهدت هذه الفترة صراعات بين السلوقيين والبطالمة، كما واجهت المدن الفينيقية اضطرابات داخلية بسبب التنافس بين القوى المحلية وتأثير القوى الخارجية.
الانتقال إلى الحكم الروماني.
من الفوضى إلى الاستقرار.
في عام 64 قم، تمكن القائد الروماني بومبيوس من السيطرة على بلاد الشام، وأصبحت المدن الفينيقية واللبنانية جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، ما أدى إلى حقبة جديدة من الاستقرار والازدهار الاقتصادي والثقافي.
الدمج في النظام الروماني.
أصبحت المدن الفينيقية جزءًا من مقاطعة سوريا الرومانية، وحصلت بعض المدن مثل صور وبعلبك على مكانة متميزة داخل الإمبراطورية.
الطابع الروماني للبنان.
شهدت هذه الفترة تشييد معابد ضخمة، وشبكات طرق، ومبانٍ عامة، ما جعل لبنان أحد المراكز الحضرية الهامة في الشرق الروماني.
عصر الازدهار الروماني (64 ق م – 395 م) تحت الحكم الروماني، شهد لبنان نموًا اقتصاديًا وحضاريًا كبيرًا، حيث أصبحت مدنه من أهم المراكز التجارية والدينية في المنطقة.
بعلبك.
مدينة المعابد الرومانية الكبرى.
كانت بعلبك، المعروفة باسم "هليوبوليس" (مدينة الشمس)، واحدة من أبرز المدن الرومانية في الشرق، حيث شيّد فيها الرومان معابد ضخمة لعبادة جوبيتر، وباخوس، وفينوس.
لا تزال أطلال هذه المعابد شاهدة على عظمة الهندسة الرومانية في لبنان.
صور وصيدا.
موانئ تجارية كبرى.
حافظت صور وصيدا على أهميتهما كمراكز تجارية، واستمرتا في تصدير الأرجوان والزجاج إلى مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية، ما عزز ازدهارهما الاقتصادي.
جبيل.
مركز ثقافي وديني.
ظلت جبيل مركزًا ثقافيًا مهمًا، حيث استمرت في لعب دورها في نشر الأبجدية والتبادل الثقافي بين الشرق والغرب.
التأثير الروماني على المجتمع والثقافة.
الهندسة والبنية التحتية.
أنشأ الرومان في لبنان طرقًا وجسورًا وحمامات عامة، مما ساعد في تعزيز التواصل والتجارة بين المدن.
اللغة والثقافة.
رغم استمرار استخدام الفينيقية في بعض المناطق، أصبحت اللاتينية واليونانية اللغتين الرسميتين، مما أثر على الثقافة المحلية.
الديانة.
في البداية، تبنى السكان المعتقدات الرومانية، لكن مع انتشار المسيحية لاحقًا، بدأ لبنان يشهد تحولًا دينيًا كبيرًا.
التحولات الدينية.
بداية انتشار المسيحية.
مع نهاية العصر الروماني، بدأت المسيحية تنتشر في لبنان، حيث اعتنق العديد من السكان الديانة الجديدة، وظهرت أولى الجماعات المسيحية في المدن الكبرى.
لعب لبنان دورًا مهمًا في تطور المسيحية في المنطقة، خاصة مع ازدياد أعداد الأديرة والكنائس.
شهد لبنان في العصر الهلنستي والروماني تحولات كبرى، حيث انتقل من التأثير اليوناني إلى السيطرة الرومانية، مما أدى إلى ازدهاره اقتصاديًا وثقافيًا.
شكلت هذه الحقبة أساسًا مهمًا للتحولات المستقبلية، خاصة مع انتشار المسيحية، التي ستلعب دورًا رئيسيًا في تاريخ لبنان في الفصول القادمة.
الفصل الرابع.
لبنان في العصر البيزنطي وصعود المسيحية (395 – 636 م).
مع انقسام الإمبراطورية الرومانية عام 395 م إلى قسمين، شرقي وغربي، أصبح لبنان جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية التي ورثت النفوذ الروماني في الشرق.
شهدت هذه المرحلة تطورًا دينيًا كبيرًا مع انتشار المسيحية وتأسيس الأديرة، لكن البلاد عانت أيضًا من الصراعات المذهبية والاضطرابات السياسية التي مهّدت لاحقًا للتحولات الكبرى مع الفتح الإسلامي.
التحول إلى الحكم البيزنطي (395 م).
استمرار النفوذ الروماني.
بعد وفاة الإمبراطور ثيودوسيوس الأول، انقسمت الإمبراطورية بين ابنيه، فخضع لبنان لحكم الإمبراطورية البيزنطية التي اتخذت من القسطنطينية عاصمة لها.
الإدارة البيزنطية.
حافظ البيزنطيون على النظام الإداري الروماني، واستمر لبنان كجزء من ولاية "فينيقيا اللبنانية"، وكان يحكمه مسؤولون يعينهم الإمبراطور.
تعزيز التحصينات.
بسبب التهديدات الخارجية، أنشأ البيزنطيون العديد من الحصون والقلاع، خاصة في المناطق الجبلية، لحماية المدن من الغزوات الفارسية والقبائل العربية.
انتشار المسيحية وتحول لبنان إلى مركز ديني.
كانت المسيحية قد بدأت بالانتشار في لبنان منذ القرن الأول الميلادي، لكنها ترسّخت أكثر خلال العهد البيزنطي وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية.
دور لبنان في انتشار المسيحية.
أصبح جبل لبنان ملاذًا للرهبان المسيحيين الذين أسسوا الأديرة والتجمعات الرهبانية.
برزت صيدا وصور وجبيل كمراكز دينية، حيث بُنيت كنائس ضخمة، وكان لأساقفتها دور في المجامع الكنسية الكبرى.
شهدت بعلبك تحوّل معابدها الوثنية إلى كنائس، ما يعكس التغير الديني العميق في المنطقة.
ظهور الطوائف المسيحية.
المونوفيزية مقابل الخلقيدونية.
اندلعت صراعات مذهبية بين المسيحيين الذين تبنوا العقيدة المونوفيزية (التي تنص على طبيعة واحدة للمسيح) والمسيحيين الذين تبنوا العقيدة الخلقيدونية (التي تؤمن بالطبيعتين الإلهية والبشرية للمسيح).
دعم الأباطرة البيزنطيون المذهب الخلقيدوني، مما أدى إلى اضطهاد المونوفيزيين، ودفع العديد منهم إلى اللجوء إلى جبال لبنان، حيث أسسوا مجتمعات رهبانية شكلت نواة المارونية لاحقًا.
التهديدات الفارسية والغزوات الخارجية.
مع ضعف الإمبراطورية البيزنطية، واجه لبنان تهديدات من الفرس الساسانيين، الذين غزوا المنطقة عدة مرات خلال القرنين السادس والسابع الميلاديين.
الغزو الفارسي (602 – 628 م).
سيطر الفرس على أجزاء من لبنان، ودمروا العديد من المدن والكنائس.
تمكّن الإمبراطور البيزنطي هرقل من استعادة المنطقة بعد حملة عسكرية ناجحة ضد الفرس عام 628 م.
التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للبنان.
رغم الاضطرابات السياسية، استمر لبنان كمركز تجاري وزراعي مهم.
الزراعة.
اشتهر الجبل اللبناني بزراعة الزيتون والكروم، بينما استمرت السهول الساحلية في إنتاج الحبوب والفواكه.
التجارة.
ظلت الموانئ الفينيقية نشطة، حيث حافظ التجار اللبنانيون على دورهم في التبادل التجاري بين الشرق والغرب.
التصنيع.
ازدهرت صناعة الحرير في جبل لبنان، حيث بدأ الرهبان بزراعته، ما ساعد في تعزيز مكانة لبنان الاقتصادية لاحقًا.
لبنان عشية الفتح الإسلامي.
مع بداية القرن السابع الميلادي، كانت الإمبراطورية البيزنطية منهكة بسبب الحروب مع الفرس والصراعات الداخلية، مما جعلها عاجزة عن مواجهة المد الإسلامي الذي بدأ مع ظهور الإسلام في الجزيرة العربية.
شهد لبنان في العهد البيزنطي تحولات كبيرة، من انتشار المسيحية وترسيخ الهوية الدينية، إلى الصراعات المذهبية والتحديات العسكرية التي واجهتها الإمبراطورية البيزنطية.
مع اقتراب الفتح الإسلامي، كانت البلاد على مشارف مرحلة جديدة ستغير مسار تاريخها، حيث سيؤدي دخول العرب المسلمين إلى تبدلات سياسية وثقافية كبرى، ستتناولها الفصول القادمة.
الفصل الخامس.
الفتح الإسلامي وتأسيس الدولة الأموية في لبنان (636 – 750 م).
شهد لبنان خلال القرن السابع الميلادي تحولًا جذريًا في تكوينه السياسي والديني، حيث كان الفتح الإسلامي بداية لمرحلة جديدة من التأثيرات الثقافية والسياسية التي استمرت لقرون.
في هذا الفصل، نستعرض وصول الإسلام إلى لبنان، والتأثيرات السياسية والاجتماعية التي صاحبت الفتح، بالإضافة إلى تأثير حكم الدولة الأموية على لبنان.
الفتح الإسلامي.
من معركة اليرموك إلى بداية السيطرة الإسلامية (636 م).
بعد ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، بدأ المسلمون في توسيع حدود دولتهم بسرعة، وواجهوا في طريقهم الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تسيطر على لبنان.
معركة اليرموك (636 م).
كانت معركة اليرموك حاسمة في تاريخ الفتح الإسلامي، حيث تمكن المسلمون بقيادة خالد بن الوليد من هزيمة الجيش البيزنطي، مما مهد الطريق لفتح بلاد الشام.
الفتح المباشر للبنان.
بعد معركة اليرموك، توجه المسلمون إلى بلاد الشام، وبدأت المدن اللبنانية مثل بيروت، وصيدا، وطرابلس في الخضوع للسلطة الإسلامية.
ساهمت الجبال اللبنانية في مقاومة بعض المناطق لفترة أطول، إلا أن الفتح كان سريعًا وشاملًا.
التعامل مع السكان المحليين.
من خلال المعاهدات والاتفاقيات، تمكن المسلمون من بسط نفوذهم على السكان المحليين، الذين اعتنق البعض منهم الإسلام، بينما احتفظ البعض الآخر بمعتقداتهم المسيحية، خاصة الطوائف المونوفيزية التي سادت في الجبال.
التأثيرات السياسية والاجتماعية في لبنان بعد الفتح.
بعد الفتح، أصبح لبنان جزءًا من الدولة الإسلامية، ودخل في إطار الخلافة الإسلامية التي كانت تتمركز في دمشق في البداية.
الانتقال من الحكم البيزنطي إلى الحكم الإسلامي.
تمتع لبنان في البداية بحكم ذاتي نسبي تحت الخلافة الأمويّة، حيث أصبح الإداريون المسلمون يسيطرون على المدن الكبرى، مثل بيروت وصيدا، في حين بقيت المناطق الجبلية تحت سيطرة الزعامات المحلية التي حافظت على هويتها المستقلة إلى حد كبير.
التنوع الديني والقبائل العربية.
رغم أن المسلمين كانوا يشكلون غالبية السكان، إلا أن لبنان استمر في الاحتفاظ بتنوعه الديني، مع وجود عدد كبير من المسيحيين الذين كان لهم دور هام في إدارة الحياة اليومية والتجارة، بالإضافة إلى العديد من القبائل العربية التي استقرت في المناطق المختلفة.
الدولة الأموية.
ازدهار لبنان كمركز تجاري وثقافي (661 – 750 م).
تحت حكم الدولة الأموية، التي أسسها معاوية بن أبي سفيان، شهد لبنان تطورًا اقتصاديًا وثقافيًا، بفضل موقعه الاستراتيجي بين الشرق والغرب.
بيروت كعاصمة ثقافية وتجارية.
في عهد الدولة الأموية، أصبحت بيروت من أهم المدن التجارية في الشام، وذلك بسبب موقعها على البحر المتوسط.
تطورت فيها موانئ تجارية مزدهرة، وكانت تعتبر مركزًا للتجارة بين بلاد الشام والعالم الغربي.
الاهتمام بالبنية التحتية.
اهتم الأمويون بتطوير البنية التحتية في لبنان، حيث تم تحسين الطرق وتوسيع المدن وبناء القلاع والحصون لحماية الأراضي من أي تهديدات خارجية.
التأثير الثقافي.
كانت المدن الكبرى مثل بيروت وصيدا مركزًا للعلماء والشعراء والفلاسفة، حيث نشأت ثقافة إسلامية جديدة تأثرت بالثقافة اليونانية والرومانية، كما شهدت تطورًا في الفقه والحديث.
الفتنة الكبرى والصراعات الداخلية.
مع تزايد نفوذ الدولة الأموية، بدأ الخلاف حول الخلافة الإسلامية، والذي أدى إلى الفتنة الكبرى (656 – 661 م) بين مؤيدي علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
في هذه المرحلة، انعكست هذه الصراعات على لبنان، حيث كانت بعض المناطق تأيّد عليًا (خاصة في الجبال)، بينما كانت المناطق الساحلية مثل بيروت وصيدا تؤيد معاوية.
التأثير على لبنان.
الصراعات السياسية في تلك الفترة ساعدت في إحداث تحولات داخلية في لبنان، حيث شهدت بعض المناطق صراعات بين القبائل المختلفة، ما أدى إلى تباين في الولاءات السياسية والدينية بين المدن والسكان المحليين.
بداية انهيار الدولة الأموية.
مع بداية القرن الثامن الميلادي، شهدت الدولة الأموية سلسلة من الاضطرابات السياسية التي أدت إلى انهيارها في عام 750 م.
بعد ذلك، خلفتها الدولة العباسية، التي نقلت مركز الخلافة إلى بغداد.
التغيرات التي طرأت على لبنان.
على الرغم من أن لبنان استمر في التمتع بالاستقلال النسبي في بعض المناطق الجبلية، إلا أن صعود العباسيين أدى إلى تغييرات في الإدارة السياسية، مما أثر على الحياة اليومية للمواطنين اللبنانيين.
شهد لبنان في العصر الأموي تحولًا كبيرًا، حيث أصبحت المنطقة جزءًا أساسيًا من الدولة الإسلامية التي أسسها الأمويون.
تأثير الفتح الإسلامي على لبنان كان عميقًا، إذ أثر على النواحي السياسية، الاجتماعية، والثقافية، وفتح الأبواب لمرحلة جديدة من التعددية الدينية والثقافية.
في الوقت نفسه، كانت هذه الفترة بداية لبروز لبنان كمركز تجاري وثقافي في الشرق الأوسط، ما ساهم في تشكيل هويته المستقبلية التي ستستمر في التطور عبر العصور القادمة.
الفصل السادس.
لبنان في العهد العباسي والصراعات الإقليمية (750 – 1250 م).
مع سقوط الدولة الأموية في عام 750 م على يد العباسيين، دخل لبنان مرحلة جديدة من التاريخ السياسي والديني.
كانت هذه الفترة مليئة بالتغيرات الكبيرة على مستوى السلطة السياسية، حيث تغيرت موازين القوى في المنطقة بعد ظهور الدولة العباسية.
تأثر لبنان في هذه الحقبة بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية التي شكلت مجرى تطوراته، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي.
التحول إلى حكم الدولة العباسية (750 م).
بعد الانتصار العباسي على الأمويين في معركة الزاب عام 750 م، أصبحت الخلافة العباسية هي القوة السياسية المركزية في العالم الإسلامي، وتم نقل عاصمة الخلافة إلى بغداد.
بالنسبة للبنان، فإن انتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين حمل معه مجموعة من التغييرات.
تأثير العباسيين على لبنان.
حافظ لبنان على موقعه الاستراتيجي كحلقة وصل بين الشرق والغرب، وهو ما جعله مركزًا اقتصاديًا وتجاريًا، إذ ازدهرت التجارة البحرية عبر موانئه.
استمر السكان اللبنانيون في التفاعل مع العباسيين، خاصة في المدن الساحلية مثل بيروت وطرابلس، بينما بقيت الجبال اللبنانية على تماسكها السياسي والديني، وكان سكانها المارونيون أكثر استقلالًا.
مع انتقال الخلافة إلى بغداد، بدأت بعض المناطق في لبنان تُحكم مباشرة من قبل الولاة العباسيين، بينما كانت بعض المناطق الجبلية قد تمتع بحكم ذاتي، بسبب صعوبة السيطرة عليها من قبل سلطات الخلافة المركزية.
الصراعات الداخلية والاضطرابات السياسية.
واجهت الخلافة العباسية تحديات عديدة، سواء من الداخل أو الخارج، وقد انعكس ذلك على لبنان الذي شهد صراعات داخلية، وتدخلات من قبل قوى خارجية، خاصة في فترات الضعف العباسي.
ثورات العباسيين في لبنان.
تأثرت بعض مناطق لبنان بالصراعات العائلية التي نشأت داخل الدولة العباسية، حيث كانت الثورات العلوية والمطالبة بالحكم من قبل فروع مختلفة من عائلة النبي محمد مصدرًا للتوترات في المنطقة.
في الجبال، واصل الموارنة تحدي الهيمنة العباسية، واحتفظوا بهويتهم الدينية والسياسية المستقلة.
الفتن والتقسيمات الإدارية.
تعرّض لبنان لعدة فتن بين الفئات المختلفة، سواء على خلفية دينية (المسلمون السنة مقابل الشيعة) أو سياسية (الموالي للعباسيين مقابل المعارضين).
استغل القادة المحليون في لبنان هذه الاضطرابات للإبقاء على قوة محلية تحكم من الجبال، مما جعل المنطقة أكثر تماسكًا من الناحية الاجتماعية والسياسية مقارنة ببقية المناطق الساحلية.
التفاعل مع الإمبراطورية البيزنطية والدول المجاورة.
في تلك الفترة، كان لبنان على اتصال مستمر مع الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تُحكم من القسطنطينية، بالإضافة إلى تفاعل مستمر مع إمارات الحروب الصليبية التي بدأت في نهاية القرن الحادي عشر.
التنافس مع البيزنطيين.
بالرغم من أن البيزنطيين فقدوا السلطة في معظم مناطق الشام، إلا أن هناك مناطق ساحلية كانت لا تزال تحت سيطرتهم مثل بيروت وصيدا لبعض الوقت، وهذا جعل لبنان يشهد صراعًا مستمرًا بين القوى الإسلامية والبيزنطية.
تميزت هذه الفترة بمحاولات مستمرة من العباسيين للاستفادة من الوضع من خلال تبادل التجارة والعلاقات السياسية مع بيزنطة، وتوفير الحماية للمناطق الحدودية.
الحروب الصليبية وتأثيرها على لبنان.
مع بداية الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر، تطور الوضع في لبنان بشكل دراماتيكي.
حمل الصليبيون حملات عسكرية كبيرة على المشرق العربي، فكانت لبنان جزءًا من المناطق التي تعرضت للغزو.
لم يكن لبنان بمنأى عن هذا الهجوم، فقد تسببت الحروب الصليبية في احتلال مناطق ساحلية لبنانية، أبرزها صور وصيدا، والتي أضحت جزءًا من مملكة القدس التي أسسها الصليبيون.
حكم الفاطميين.
تأثيرات جديدة على لبنان (969 – 1071 م).
في الفترة ما بين نهاية القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر، سيطر الفاطميون على أجزاء من لبنان، على الرغم من أن هذه السيطرة كانت غير ثابتة.
الصراعات الفاطمية-العباسية.
حكم الفاطميون المنطقة كجزء من الدولة الفاطمية الشيعية، ما أدى إلى صراعات سياسية ودينية مع الخلافة العباسية السنية.
حاول الفاطميون بسط نفوذهم على لبنان، ما جعل المناطق الساحلية تخضع تحت تأثيرهم لفترات معينة.
الانهيار العباسي والصراعات مع المماليك.
بعد تراجع قوة الدولة العباسية في بغداد نتيجة للصراعات الداخلية، بدأت الدولة المملوكية تفرض نفسها في العالم الإسلامي، وكان لبنان جزءًا من المناطق التي تأثرت بتحولات هذه الفترة.
الوجود المملوكي في لبنان.
مع انهيار العباسيين، دخل المماليك إلى لبنان في منتصف القرن الثالث عشر، وفرضوا حكمهم على المناطق الساحلية مثل بيروت وطرابلس.
في هذه الفترة، كانت لبنان بمثابة نقطة عبور بين المماليك والإمبراطورية البيزنطية والإمارات الصليبية، مما جعلها منطقة استراتيجية هامة في صراع القوى الإقليمية.
شهد لبنان في العهد العباسي والصراعات التي تلت ذلك فترة من التوترات السياسية والاضطرابات الداخلية، إضافة إلى تفاعلات مع القوى الإقليمية الكبيرة مثل البيزنطيين والمماليك.
كانت الفترة العباسية تشكل مرحلة انتقالية هامة في تاريخ لبنان، إذ تأثرت مواقفه السياسية والدينية بتقلبات الخلافة العباسية من جهة، وبتأثيرات القوى المجاورة من جهة أخرى.
مع بداية الحروب الصليبية ودخول المماليك إلى لبنان، بدأ الفصل السابع من تاريخ لبنان يأخذ طابعًا جديدًا سيشكل ملامح المرحلة التالية من تاريخ لبنان في العصور الوسطى.
الفصل السابع.
لبنان تحت حكم المماليك والعثمانيين (1250 – 1918 م).
شهد لبنان خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن الثالث عشر حتى أوائل القرن العشرين، تحولات جذرية على المستويين السياسي والاجتماعي.
حيث شكلت الدولة المملوكية ثم السلطنة العثمانية معًا فترات حاسمة في تاريخ لبنان، جلبت معهما تغييرات اقتصادية، اجتماعية، ودينية كانت لها تأثيرات عميقة على هوية لبنان وعلى علاقاته مع العالمين العربي والإسلامي، وكذلك مع القوى الأوروبية.
لبنان تحت الحكم المملوكي (1250 – 1516 م).
بعد انهيار الدولة العباسية في بغداد، أصبح الحكم المملوكي هو القوى المسيطرة في الشام.
دخل المماليك لبنان في منتصف القرن الثالث عشر، وبدأوا بتوسيع سيطرتهم على المناطق الساحلية مثل بيروت وطرابلس وصيدا.
وقد تميزت هذه الفترة بعدة مظاهر.
الهيمنة المملوكية على لبنان.
عمل المماليك على بسط سيطرتهم على لبنان بشكل تدريجي.
ورغم أن لبنان لم يكن مركزًا أساسيًا بالنسبة لهم، إلا أنه كان ذا أهمية استراتيجية كحلقة وصل بين مصر والشام.
اهتم المماليك بتحسين البنية التحتية للمدن الساحلية، مثل بناء أسواق وأسوار جديدة في بيروت وطرابلس، بالإضافة إلى تطوير القطاع الزراعي.
التفاعل الثقافي والتجاري.
كما كان الحال مع الفاطميين، فقد شهد لبنان تفاعلًا ثقافيًا وتجاريًا مع العديد من مناطق العالم الإسلامي، خاصة مصر والشام.
استفاد لبنان من موقعه الجغرافي بين البحر الأبيض المتوسط وداخل الشرق الأوسط، مما ساعده على أن يصبح مركزًا تجاريًا مزدهرًا.
النفوذ المملوكي في الجبال.
بينما كانت المناطق الساحلية تحت السيطرة المباشرة للمماليك، فقد احتفظت المناطق الجبلية، خاصة في المناطق المارونية والدروزية، باستقلال نسبي.
في هذا السياق، بدأ الفلاحون الجبليون يتعاونون مع السلطات المملوكية، مما سمح لهم بتطوير نظام إقطاعي محلي.
التحديات والمقاومة.
على الرغم من الهيمنة المملوكية، فقد عرفت هذه الفترة العديد من الاضطرابات من بينها المقاومة المحلية في الجبال، خاصة من قبل الدروز والموارنة الذين كانوا يبحثون عن استقلال أكبر.
لبنان تحت الحكم العثماني (1516 – 1918 م).
في عام 1516، أصبحت الدولة العثمانية القوة الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط بعد انتصارها على المماليك في معركة مجدو.
إستمرت السلطنة العثمانية في حكم لبنان لأكثر من 400 عام، وهو ما كان له تأثير عميق في تشكيل الهوية اللبنانية السياسية والاجتماعية.
بداية الحكم العثماني.
الاستقرار النسبي في بداية الحكم العثماني.
بعد هزيمة المماليك، قامت الدولة العثمانية بتعيين ولاة محليين على لبنان، وبدأت بتطبيق النظام الإداري الجديد الذي يتضمن تقسيمات إدارية إقليمية.
في البداية، عمل العثمانيون على توفير بعض الاستقرار السياسي في لبنان، حيث استمر تفاعل اللبنانيين مع القوى العثمانية.
التقسيمات الإدارية.
كانت الأراضي اللبنانية جزءًا من ولايات الشام العثمانية مثل ولاية دمشق.
لكن سرعان ما بدأت المناطق اللبنانية في الحصول على نوع من الاستقلال الذاتي، لا سيما في المناطق الجبلية حيث كانت هناك عائلات محلية قوية تحكم.
عصر الامارة اللبنانية (1600 – 1840 م).
بداية إمارة جبل لبنان.
في القرن السابع عشر، مع بداية حكم الأمير فخر الدين المعني (1608 – 1635)، بدأ لبنان يشهد أولى فترات الاستقلال السياسي النسبي عن الدولة العثمانية.
فخر الدين المعني الذي حكم الجبل، كان له دور كبير في توحيد المناطق اللبنانية في إطار إمارة واحدة، وعُرف بتحالفاته مع القوى الأجنبية، لا سيما مع إيطاليا وفرنسا.
خلال فترة حكمه، شهد لبنان تطورًا في مجالات الزراعة والصناعة والفنون.
التحديات الداخلية والخارجية.
بفضل تأثيره في المنطقة، أصبح الأمير فخر الدين خصمًا للعاصمة العثمانية في إسطنبول، حيث اعتبرت الدولة العثمانية حكمه تهديدًا لسلطتها.
في النهاية، تم القضاء على حكمه، مما أدى إلى تراجع التوحد السياسي في لبنان.
الحكم العثماني المباشر وصراعات الطوائف (1840 – 1914 م).
التقسيمات الطائفية والنزاعات الداخلية.
بعد سقوط إمارة جبل لبنان، بدأ العثمانيون بتطبيق نظام اللامركزية في الحكم.
بدأت القوى الطائفية في لبنان تزداد نفوذًا، خصوصًا بين الطائفتين المارونية والدروزية، واندلعت العديد من النزاعات المسلحة بين الطائفتين.
التدخلات الأوروبية.
شهدت هذه الفترة تأثيرًا متزايدًا للوجود الأوروبي في لبنان، حيث تدخلت فرنسا على وجه الخصوص لحماية الموارنة، بينما كانت بريطانيا تميل إلى دعم الدروز.
أدت هذه التدخلات إلى تعزيز الانقسامات الطائفية داخل لبنان.
التحولات الاقتصادية والاجتماعية.
في الوقت نفسه، كانت هناك تحولات اقتصادية هامة، حيث بدأ لبنان يشهد تطورًا في الزراعة والتجارة، وازدهرت بعض الصناعات التقليدية مثل صناعة الحرير.
مع بداية القرن العشرين، أصبح لبنان جزءًا من الاقتصاد العثماني الواسع، وهو ما عزز ارتباطه بالأسواق الأوروبية.
نهاية الحكم العثماني والصراعات الإقليمية (1914 – 1918 م).
الحرب العالمية الأولى وتأثيرها على لبنان.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب قوى المركز.
مع تدهور الوضع في الإمبراطورية العثمانية، تأثرت لبنان بشكل كبير.
كانت الخطوط الأمامية في المعركة في منطقة الشام، مما جعل لبنان يشهد تدميرًا واسعًا في بنيته التحتية وتراجعًا حادًا في الاقتصاد.
المجاعة والاحتلال الفرنسي.
في الفترة ما بين 1915 و1918، عانت المناطق اللبنانية من مجاعة كبيرة بسبب الحصار العثماني، الذي أدى إلى وفاة العديد من السكان.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، واحتلال الفرنسيين للبنان في 1918، انتهت الحقبة العثمانية ليبدأ فصل جديد في تاريخ لبنان.
كانت فترة حكم المماليك والعثمانيين بمثابة مرحلة حاسمة في تشكيل لبنان من الناحيتين السياسية والاجتماعية.
خلال هذه القرون الأربعة، تطور لبنان تحت تأثيرات متنوعة من صراعات داخلية، تدخلات خارجية، وتحولات ثقافية واقتصادية.
تركت هذه الفترات إرثًا معقدًا من الانقسامات الطائفية والتحديات السياسية التي ستستمر في التأثير على تاريخ لبنان في العصور التالية.
الفصل الثامن.
الانتداب الفرنسي وتأسيس الدولة اللبنانية (1918 – 1943).
كانت الفترة الممتدة من 1918 إلى 1943 من أكثر الفترات حاسمة في تاريخ لبنان، حيث شكلت مرحلة انتقالية من الحكم العثماني إلى مرحلة الاستقلال الوطني.
شهد لبنان في هذه الحقبة الانتداب الفرنسي الذي فرضته القوى الاستعمارية الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى، ومن ثم كان التحول الكبير نحو استقلال لبنان في عام 1943.
مرحلة الانتداب الفرنسي (1918 – 1941).
مع نهاية الحرب العالمية الأولى في 1918، انهار الإمبراطورية العثمانية وتوزعت أراضيها بين القوى الاستعمارية الكبرى.
بموجب اتفاقية سايكس-بيكو بين فرنسا وبريطانيا في عام 1916، تم تقسيم أراضي الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ، وكان لبنان من نصيب فرنسا، التي حصلت على انتداب رسمي من عصبة الأمم في عام 1920.
تأسيس دولة لبنان الكبير.
إعلان دولة لبنان الكبير (1920).
في 1 سبتمبر 1920، قام الجنرال هنري غورو، القائد العسكري الفرنسي، بإعلان تأسيس دولة لبنان الكبير، التي ضمت، لأول مرة في تاريخ لبنان، مناطق تمتد من جبل لبنان إلى الجنوب، البقاع، والشمال، مما جعلها دولة ذات حدود واضحة بعد سنوات من التجزئة في العهد العثماني.
كان هذا التوسع الجغرافي يشمل مناطق ذات طوائف ومجموعات دينية متعددة، مثل المسيحيين الموارنة والدروز، إضافة إلى المسلمين السنة والشيعة.
الحكم الفرنسي.
عملت فرنسا على فرض نظام إداري جديد في لبنان، وتم تأسيس الانتداب الفرنسي الذي تم من خلاله تعيين حكام فرنسيين في لبنان، مع تواجد مجلس استشاري يتضمن بعض الشخصيات اللبنانية.
حاولت فرنسا دمج لبنان بشكل تدريجي في مشروعها الاستعماري الأوسع في الشرق الأوسط، إلا أن ذلك اصطدم مع الواقع اللبناني المعقد.
التحولات السياسية والاجتماعية.
النظام السياسي الفرنسي.
فرض الفرنسيون نظامًا سياسيًا قائمًا على سيطرة كبيرة على السلطة التنفيذية والقضائية، ولكن مع مشاركة محدودة من النخب اللبنانية في القرارات السياسية.
بدأت الأحزاب السياسية تظهر في لبنان في هذه الفترة، مثل الحزب الوطني وحزب الكتائب، الذي كان يطالب بالاستقلال والحرية.
التحولات الاقتصادية.
حاولت فرنسا تنفيذ مشاريع تنموية في لبنان، أبرزها تطوير البنية التحتية مثل بناء الطرق والموانئ.
ولكن في الوقت نفسه، كان هناك استغلال اقتصادي للموارد اللبنانية لصالح المصالح الفرنسية.
الثقافة والتعليم.
افتتحت فرنسا العديد من المدارس والجامعات التي كانت تحت سيطرتها، وكان للمدارس الفرنسية دور كبير في التعليم في لبنان، إذ تخرج منها العديد من الشخصيات السياسية التي سيكون لها دور بارز في الحياة العامة بعد الاستقلال.
الانتفاضات والمقاومة اللبنانية.
الانتفاضات الشعبية.
لم تكن فترة الانتداب الفرنسي هادئة في لبنان، فقد شهدت عدة انتفاضات شعبية ضد الاحتلال الفرنسي.
كان من أبرزها ثورة 1920 التي قادها الأمير بشير الشهابي ضد احتلال القوات الفرنسية في جبل لبنان.
بالإضافة إلى ذلك، اندلعت عدة ثورات محلية من قبل الطوائف المختلفة، مثل الثورة الدروزية في جبل لبنان، وغيرها من الحركات التي عارضت النظام الاستعماري الفرنسي.
التحولات نحو الاستقلال (1941 – 1943).
مع بداية الحرب العالمية الثانية في 1939، شهدت المنطقة تغيرات جذرية، بما في ذلك تداعيات الحرب على وضع لبنان السياسي.
الاحتلال البريطاني والضغط الفرنسي.
الحرب العالمية الثانية.
في عام 1941، ونتيجة للظروف العالمية المتقلبة في الحرب، تدخلت بريطانيا وفرنسا الحرة (بقيادة شارل ديغول) في لبنان، في محاولة لموازنة النفوذ الفرنسي التقليدي.
هذا التدخل جعل الوضع السياسي في لبنان أكثر تعقيدًا.
المقاومة ضد الاحتلال.
في هذه الفترة، بدأ اللبنانيون بمطالبة فرنسا بالاستقلال، وظهر تأثير المقاومة الوطنية التي كانت تطالب بإنهاء الانتداب الفرنسي.
الاستقلال اللبناني.
اتفاقية 1943.
في العام 1943، بدأت المفاوضات حول الاستقلال اللبناني، حيث كان هناك توافق بين القوى السياسية اللبنانية على المطالبة بالاستقلال التام.
وكان هذا الاتفاق يحدد إطار العلاقات السياسية والاقتصادية بين لبنان وفرنسا.
تم تحديد الشخصية اللبنانية المستقلة، حيث تم الاتفاق على تأسيس نظام سياسي طائفي يشمل مختلف المكونات اللبنانية.
تم انتخاب رياض الصلح رئيسًا للحكومة، وهو ما مثل نقطة تحول نحو الاستقلال الفعلي.
إعلان الاستقلال.
في 22 نوفمبر 1943، تم الإعلان رسمياً عن استقلال لبنان، وهو اليوم الذي يُحتفل به سنويًا كذكرى للحرية والسيادة اللبنانية.
هذا الاستقلال جاء نتيجة لمعارك سياسية وتضحيات وطنية قادتها شخصيات لبنانية بارزة في ذلك الوقت، مثل بشارة الخوري ورياض الصلح.
لبنان في مرحلة ما بعد الاستقلال (1943).
المرحلة الأولى من الاستقلال.
بعد الاستقلال، كانت البداية مع تأسيس الجمهورية اللبنانية بنظام الطائفية السياسية، الذي كان يضمن مشاركة جميع الطوائف في الحياة السياسية.
الطائفية السياسية كانت ثمرة توافق وطني لضمان التوازن بين المكونات اللبنانية المختلفة.
التحديات الجديدة.
كانت لبنان، بعد الاستقلال، في وضع حساس بسبب التقلبات الإقليمية والسياسية.
كان لبنانيون يقيمون علاقات مع القوى الكبرى، وفي نفس الوقت كانوا يحاولون الحفاظ على استقلالهم في إطار توازنات دقيقة.
شكلت فترة الانتداب الفرنسي مرحلة حاسمة في تاريخ لبنان الحديث، حيث كانت البداية الحقيقية لمفهوم الدولة اللبنانية الحديثة.
رغم أن هذه الفترة كانت مليئة بالتحديات والمقاومة، فقد انتهت بتأسيس لبنان كدولة مستقلة ذات سيادة.
كان إعلان الاستقلال في 22 نوفمبر 1943 لحظة فارقة في تاريخ لبنان، وهو اليوم الذي يعبر عن التضحيات التي قدمها اللبنانيون من أجل بناء دولة حرة ومستقلة.
الفصل التاسع.
لبنان ما بعد الاستقلال والتحولات السياسية والاجتماعية (1943 - 1975).
بعد الاستقلال في عام 1943، واجه لبنان مرحلة جديدة من التحديات السياسية والاجتماعية، حيث بدأت ملامح الدولة اللبنانية الحديثة تتشكل، لكن هذا التحول لم يكن سهلًا.
بين عامي 1943 و1975، شهد لبنان تحولات كبيرة في نظامه السياسي، بالإضافة إلى التطورات الاجتماعية والاقتصادية، مع تعقيدات إقليمية وعالمية تؤثر في استقراره الداخلي.
كانت هذه الفترة مليئة بالصراعات السياسية والنزاعات الطائفية التي كانت في بعض الأحيان تخرج عن السيطرة، وتساهم في تحضير الأرضية للانفجار الكبير في حرب لبنان الأهلية في عام 1975.
بناء الدولة اللبنانية وتشكيل النظام السياسي الطائفي.
بعد استقلال لبنان، بدأ التحول نحو بناء الدولة الحديثة على أسس الديمقراطية التوافقية بين الطوائف المختلفة.
أُسِّس اتفاق الطائف غير الرسمي بين القوى السياسية، حيث تم تحديد توزيع المناصب الرئيسية في الدولة وفقًا لتوزيع الطوائف، وهو ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ النظام الطائفي.
النظام السياسي الطائفي.
التوازن الطائفي كان يعتبر الأساس في إدارة الشؤون السياسية في لبنان، حيث تم تقسيم السلطة بين الطوائف المختلفة وفقًا لمبدأ المناصفة.
كان من المفترض أن يكون هذا التوازن أساسًا للاستقرار في لبنان، إذ كانت المناصب الكبرى مقسمة كما يلي.
رئاسة الجمهورية للمسيحيين الموارنة.
رئاسة الحكومة للمسلمين السنَّة.
رئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة.
هذا النظام كان يهدف إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية، لكنه في الوقت نفسه كان يخلق تحالفات هشة قد تؤدي إلى التوترات في الحالات التي تتعارض فيها مصالح الطوائف.
التحديات السياسية في السنوات الأولى للاستقلال.
كان من أبرز القضايا التي واجهت لبنان بعد الاستقلال، هو تعزيز الديمقراطية في ظل التعددية الطائفية.
كانت هناك خلافات سياسية بين الأحزاب، من بينها الحزب الوطني وحزب الكتائب، وكل واحد منها كان يعبر عن مصالح طائفة معينة.
كما كان هناك الجدل حول العلاقة مع الدول العربية والدول الغربية، والتي كانت تؤثر بشكل كبير على السياسة اللبنانية.
كما كانت العلاقة مع الجيش الفرنسي والقوات البريطانية إحدى القضايا الهامة في السنوات التي تلت الاستقلال.
كانت فرنسا لا تزال تمارس تأثيرًا غير مباشر على السياسة اللبنانية، الأمر الذي جعل بعض الأحزاب اللبنانية تتطلع إلى التقارب مع الدول العربية.
التطورات الاقتصادية والاجتماعية في لبنان.
منذ الاستقلال، شهد لبنان فترة من الازدهار الاقتصادي الذي كان مدفوعًا بالنشاط التجاري الكبير في بيروت، التي كانت مركزًا ماليًا وثقافيًا مزدهرًا في منطقة الشرق الأوسط.
كان هناك استقرار نسبي في الاقتصاد اللبناني الذي لعب دورًا محوريًا في جذب الاستثمارات الدولية، وبدأت بيروت تصبح ما يُعرف بـ "باريس الشرق".
الازدهار الاقتصادي.
في هذه الفترة، ازدهرت القطاعات المختلفة مثل التجارة والبنوك والسياحة.
كان لبنان مركزًا تجاريًا هامًا على مستوى العالم العربي، حيث كانت بيروت تعد واحدة من أرقى المدن في المنطقة.
البنك المركزي اللبناني بدأ في تأسيس سياسات مالية مستقلة، مما ساعد على تعزيز الاستقرار الاقتصادي.
كما تطورت البنية التحتية و التعليم بشكل كبير.
التحولات الاجتماعية.
كانت فترة ما بعد الاستقلال أيضًا مرحلة من التغيرات الاجتماعية الكبرى، حيث شهدت بيروت وأطرافها نموًا سكانيًا غير مسبوق نتيجة الهجرة من الريف والمناطق النائية.
أصبح التعليم أحد أبرز القطاعات التي تم التركيز عليها، حيث شهد لبنان في تلك الفترة تطورًا ملحوظًا في نظامه التعليمي الذي كان يتيح الفرص للعديد من الطوائف والمناطق اللبنانية.
لبنان بين السياسة الداخلية والتأثيرات الإقليمية.
خلال السنوات التي تلت الاستقلال، كان لبنان يتأثر بشكل كبير بالمتغيرات الإقليمية والعالمية.
أدى ذلك إلى توترات متزايدة على الساحة اللبنانية.
تأثير الأحداث العربية على لبنان.
بعد الاستقلال، أصبحت لبنان ساحة لمختلف التحالفات العربية والدولية.
في عام 1948، كان النزاع العربي-الإسرائيلي يؤثر بشكل مباشر على لبنان، إذ استقبل لبنان العديد من اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة.
هذا الحدث كان له تداعيات كبيرة على السياسة اللبنانية الداخلية، إذ أن اللاجئين الفلسطينيين شكلوا جزءًا من المجموعات التي أثرت على التوازنات السياسية والاجتماعية في لبنان.
حرب 1956 (العدوان الثلاثي على مصر) وحرب 1967 (حرب الأيام الستة) كانت أيضًا لها تداعيات على لبنان، حيث أن الوجود الفلسطيني في لبنان أصبح يشكل قضية متزايدة التأثير، وهو ما ساهم في تفجير التوترات بين مختلف الطوائف اللبنانية.
العلاقات مع سوريا والعالم العربي.
كانت العلاقات اللبنانية-السورية محورية في هذه الفترة.
في البداية، كانت هناك علاقات إيجابية مع الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تحت قيادة جمال عبد الناصر.
لكن مع مرور الوقت، أصبح هناك تباين في الآراء حول العلاقات اللبنانية-السورية.
سوريا كانت ترغب في تقوية نفوذها في لبنان، بينما كان اللبنانيون يسعون إلى الحفاظ على استقلاليتهم.
من جهة أخرى، كان لبنان يشهد توسعًا في العلاقات مع الغرب، خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تسعى إلى استقطاب لبنان ضمن معسكرها في الشرق الأوسط.
بداية التوترات التي أدت إلى الحرب الأهلية.
في السنوات الأخيرة قبل حرب لبنان الأهلية (1975)، بدأت التوترات في الظهور بوضوح.
كانت الخلافات بين الطوائف اللبنانية، والتدخلات الخارجية، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية، من العوامل التي أسهمت في تصاعد الاحتقان الداخلي.
كما أن وجود اللاجئين الفلسطينيين، مع التنظيمات المسلحة الفلسطينية، بدأ يُشكل تحديًا أمنيًا واجتماعيًا للبنان، ما أدى إلى تزايد التوترات بين مختلف القوى السياسية والطائفية.
تشكل الفترة الممتدة من 1943 إلى 1975 مرحلة محورية في تاريخ لبنان الحديث.
على الرغم من الازدهار الذي شهدته البلاد اقتصاديًا وثقافيًا، كانت التوترات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتصاعد تدريجيًا، مما مهّد الطريق للأحداث التي أدت إلى الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975.
الفصل العاشر.
الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).
تعد الحرب الأهلية اللبنانية من أكثر المراحل دموية وتعقيدًا في تاريخ لبنان الحديث، حيث دارت رحاها على مدار خمسة عشر عامًا، خلفت وراءها دمارًا هائلًا وأثرًا عميقًا في كافة جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
إندلعت الحرب في عام 1975 نتيجة لمجموعة من الأسباب المعقدة، التي تراوحت بين الصراع الطائفي، والتدخلات الإقليمية والدولية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية.
كان لهذا الصراع تأثير عميق في تشكيل لبنان المعاصر، حيث استمر تأثيره حتى بعد توقيع اتفاق الطائف في عام 1989، الذي أنهى الحرب بشكل رسمي.
الأسباب الرئيسية للحرب الأهلية.
قبل أن تندلع الحرب الأهلية، كانت هناك عدة عوامل سياسية، اجتماعية، واقتصادية تساهم في خلق بيئة مشحونة بالتوترات.
وهذه الأسباب يمكن تلخيصها على النحو التالي.
الصراع الطائفي والسياسي.
النظام الطائفي الذي قام عليه لبنان بعد الاستقلال، والذي كان قد تم تثبيته بموجب اتفاق الطائف في عام 1943، بدأ يظهر نقاط ضعفه بشكل جلي.
النظام كان يعتمد بشكل أساسي على التوازن الطائفي بين المكونات المختلفة من المسيحيين والمسلمين، ومع مرور الوقت، أصبحت هذه التوازنات غير قادرة على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية.
التوترات بين المسيحيين والمسلمين كانت تتصاعد بشكل كبير، خصوصًا مع الخلافات حول تأثير القوى السياسية الإقليمية والدولية على الداخل اللبناني.
كانت هناك خلافات بين الموارنة والسنة والشيعة حول توزيع السلطة ونفوذ الفلسطينيين في لبنان، خاصة بعد نزوح اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان في أعقاب حرب 1948.
وجود الفلسطينيين في لبنان.
كان دخول الفلسطينيين إلى لبنان في الخمسينيات والستينيات، بعد النكبة، بداية للمسألة التي أثرت على استقرار لبنان.
حيث قامت منظمة التحرير الفلسطينية (OLP) بتأسيس قواعد عسكرية في لبنان، لتكون مركزًا لعملياتها ضد إسرائيل.
هذا الوجود الفلسطيني، وتزايد تأثيره في الأحداث اللبنانية، بدأ يشكل تحديًا كبيرًا للبنان.
بالإضافة إلى ذلك، كان هناك معسكرات فلسطينية في جنوب لبنان والشمال، وهو ما خلق صراعات داخلية بين الحكومة اللبنانية والفصائل الفلسطينية المسلحة.
كما أن حزب الكتائب والعديد من القوى المسيحية في لبنان كان لديهم تحفّظات كبيرة على النفوذ الفلسطيني في البلاد.
التدخلات الإقليمية والدولية.
كانت سوريا وإسرائيل والدول العربية المختلفة تلعب أدوارًا معقدة في الوضع اللبناني.
سوريا كانت تطمح في التوسع في لبنان وترى في نفسها الوصي على النظام السياسي اللبناني، بينما كانت إسرائيل تسعى إلى توجيه ضربات قوية للفصائل الفلسطينية عبر الأراضي اللبنانية.
من جانب آخر، كانت هناك التدخلات الغربية، بما في ذلك التأثير الأمريكي والفرنسي، حيث سعى الغرب للحفاظ على استقرار لبنان الذي كان يُعتبر نقطة توازن في المنطقة، وكان يشهد تقلبات في علاقاته بين الشرق والغرب.
هذا التنافس بين القوى الإقليمية والدولية كان له دور كبير في تعميق الصراع الداخلي اللبناني.
اندلاع الحرب الأهلية.
بدأت حرب لبنان الأهلية في 13 أبريل 1975، عندما اندلعت الاشتباكات في بيروت بين الفلسطينيين والكتائب اللبنانية، وهي جماعة مسيحية كانت تعتبر الفلسطينيين تهديدًا للمجتمع المسيحي اللبناني.
تطورت هذه الاشتباكات إلى صراع شامل يضم جميع الأطراف الطائفية والسياسية في لبنان.
نشأت العديد من الميليشيات المسلحة من جميع الطوائف، بما في ذلك ميليشيات مسيحية وميليشيات إسلامية، بعضها كان يدعمه الفلسطينيون، بينما آخرون كانت تدعمهم دول إقليمية أو دولية.
تحول الصراع من حرب محلية إلى حرب إقليمية، حيث دخلت سوريا إلى لبنان في عام 1976 لدعم القوى المسيحية ضد الفلسطينيين وحلفائهم من المسلمين، بينما كانت إسرائيل تدخل في وقت لاحق للضغط على القوات الفلسطينية.
تطور الحرب.
قتال داخلي وحرب إقليمية.
خلال السنوات الأولى من الحرب، تجمعت جبهات القتال في مناطق بيروت الكبرى، مع الحصار على غرب بيروت الذي كان يسيطر عليه الفلسطينيون وحلفاؤهم من المسلمين، فيما كانت الشرق بيروت التي تسيطر عليها القوات المسيحية.
تطور الصراع ليشمل مناطق أخرى من لبنان، وكان هناك مواجهات عنيفة في الجنوب اللبناني بين الميليشيات الفلسطينية وقوات الجيش اللبناني، كما شهدت الجبال اللبنانية صراعًا طائفيًا دمويًا.
تدخلات إسرائيلية.
في العام 1978، شنت إسرائيل عملية الليطاني على لبنان بهدف القضاء على قواعد الفدائيين الفلسطينيين في جنوب لبنان.
في العام 1982، شنت إسرائيل حربًا واسعة تحت مسمى عملية السلام في الجليل، واحتلت بيروت الجنوبية، ثم عاصمتها بيروت بعد حصار طويل.
كان هدف إسرائيل من تدخلاتها العسكريّة في لبنان هو تصفية المقاومة الفلسطينية وتعزيز نفوذها في البلاد.
الاتفاقات والهدن.
خلال الحرب، كان هناك عدة محاولات للتهدئة أو إقرار اتفاقات لوقف إطلاق النار، لكن هذه المحاولات فشلت مرارًا بسبب الفجوات العميقة بين الأطراف المتصارعة، والتي كانت مرتبطة بالصراعات الإقليمية والدولية.
الحرب اللبنانية ومراحلها المختلفة.
بعد سنوات من القتال المدمر، بدأت الحرب تتخذ أبعادًا أخرى.
في أواخر الثمانينات، كان الصراع يشهد انتقالًا من المواجهات العسكرية إلى المعارك السياسية.
في هذه الفترة، بدأت العديد من الميليشيات المسلحة تلعب دورًا في السياسة اللبنانية، وأصبح من الواضح أن الطائفية قد أدت إلى تدمير نسيج المجتمع اللبناني، مما جعل الاستقرار أمراً صعبًا جدًا في ظل هذا الوضع.
اتفاق الطائف (1989) ونهاية الحرب.
في عام 1989، تم التوصل إلى اتفاق الطائف في السعودية، وهو الاتفاق الذي أقر إصلاحات سياسية كانت تهدف إلى إنهاء الحرب.
الاتفاق نص على نقل السلطة بشكل تدريجي إلى الطوائف الإسلامية في البلاد، مما أدى إلى تقليص نفوذ المسيحيين في مؤسسات الدولة.
انتهت الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990، بعد مرور أكثر من 15 عامًا من القتال.
أسفر النزاع عن مئات الآلاف من القتلى والمصابين، بالإضافة إلى ملايين المهجرين داخل لبنان وخارجه.
آثار الحرب على لبنان.
الحرب الأهلية اللبنانية تركت آثارًا عميقة على الشعب اللبناني، فبجانب الدمار المادي الذي لحق بالعديد من المدن اللبنانية، كانت هناك خسائر بشرية ضخمة، وأدت الحرب إلى تغييرات في التركيبة السكانية للبنان بسبب الهجرة والنزوح الداخلي.
النظام السياسي اللبناني بعد الحرب لم يعد كما كان قبلها، فقد أُقر اتفاق الطائف الذي أعاد ترتيب القوى في الداخل اللبناني، إلا أنه ظل هشًا وغير قادر على ضمان الاستقرار التام.
إن الحرب الأهلية اللبنانية هي إحدى أزمات لبنان الكبرى التي غيرت مجرى تاريخ البلاد، وجعلت التحديات التي يواجهها اللبنانيون أكثر تعقيدًا.
هذه الحرب كانت نقطة تحول، ليس فقط في مسار لبنان السياسي، بل أيضًا في تركيبته الاجتماعية والاقتصادية.
على الرغم من أنها انتهت مع اتفاق الطائف، فإن تداعياتها استمرت لعقود، ولا يزال لبنان يعاني من آثارها في العديد من المجالات حتى اليوم.
(بقلم: أنطوان فضّول)