السفير جان ملحا
أسدلت الحرب العالمية الأولى ستارها، قبيل ولادة جان ملحه بستين. فاذا بعينيه تبصران النور على زمن الانتداب الفرنسي، وفي لحظة تاريخية تتحول فيها البلاد الى لبنان الكبير قبل أن ترتدي ثوب الجمهورية اللبنانية وهي الأولى في السرق الأوسط والعالم العربي.
ترعرع في قلب كسروان، في بلدة عينطورة، حيث الارسالية الفرنسية نجحت في تأسيس محطة تتسلل من خلالها الثقافة الأوروبية بطابعها الكاثوليكي، وردائها الفرنسي الى المجتمع اللبناني لا سيما الكسرواني المتجذر بطابعه الماروني.
في هذه الآفاق نشأ تلميذاً منضبطاً تنقل في العشرينيات بين عينطورة وذوق مكايل وبيروت العاصمة، متلقيًا دراسته الابتدائية والتكميلية والثانوية على مقاعد مدرسة عينطورة أولاً ثم مدرسة الحكمة ثانيًا فمدرسة عينطورة مجدداً، حيث التحق بها تلميذاً داخليًا تابع دراسته حتى النهاية.
معهد الحكمة في بيروت، وان كان محطة لم تدم طويلاً في الزمن، الًا أنها أعطته هي الأخرى من منجم عطاءاتها الوطنية والانسانية والتعليمية، حيث أمدته بمزيد من تلاوين النجاح والتقدم العلمي، اضافة الى تجربة هامة في التواصل مع شريكه في الوطن وهو احتكاكه الأول معه، وفي زمن كانت تترسّخ فيه أساسات الصرح اللبناني المتكامل. أما معهد عينطورة الذي انطلق منه، وعاد اليه، فقد ربطته علاقة خاصة به لا تزال تنفح في داخله حنينًا ودفئًا وسلامًا.
المدراء الذين تولّوا الاشراف على تنشئته، الأساتذة الذين تلقى على أيديهم المبادئ، الصرح العريق الذي نشأ في أحضانه وقد حفظ خلاياه خلية خلية ونسج في حناياه أطيب الذكريات وألطف الأوقات.
عينطورة بعراقتها، بخصوصيتها التاريخية والحضارية. عينطورة برونق جماليتها، بموقعها الريادي الذي نشأ في أحضانه وقد حفظ خلاياه خلية خلية ونسج في حناياه أطيب الذكريات وألطف الأوقات.
عينطورة بعراقتها، بخصوصيتها التاريخية والحضارية. عينطورة برونق جماليتها، بموقعها الريادي في الوجدان اللبناني. عينطورة مدرسة الأدباء والشعراء، محطة كبار رجالات الأكاديمية الفرنسية بدءًا بلامارتين وبيار دوبوا والجنرال ويغان وجون لوكونت....
هذه الحاضرة العلمية والثقافية بقيت تمد السفير جان ملحه طوال حياته بتيار الفكر الحر ونزعة مواكبة العصر علمًا وريادة.
أنهى مرحلة الدراسة والتخصص الجامعي حائزاً في الآداب الشرقية، ومتمكنًا من اللغتين العربية والفرنسية، ومتأهبًا لمستقبل واعد أراده ثابتًا، مستقراً، وافر النتاج، واضح الرؤيا، فاذا بفكره الناضج يستقر على الوظيفة الرسمية كخيار وجد فيه تحقيقًا لآماله وأساسًا لحياة مهنية تبقى بمنأى عن أي تعقيد أو خلل أو اهتزاز.
سيما وأن المرحلة التي أنهى بها مرحلة الجامعة كانت زاخرة بالوعود اذ نحن نتحدّث عن أواسط الأربعينيات من القرن العشرين وهو عهد الاستقلال اللبناني المهيمنة على مقدرات المجتمع النزعة السيادية.
بدأ مسيرته في خدمة الوطن منذ 16 حزيران 1945. هو من الرعيل الأول الذي أسهم في اعلاء مداميك المؤسسات الوطنية والادارات الدبلوماسية.
عمل بداية في وزارة المالية قبل ان يلتحق في ملاك وزارة الخارجية والمغتربين، عندما تقرر نقل الوزارة من السراي الصغير الى قصر بسترس وكان ينقصها عدد من الموظفين لملاكها الاداري، عندها طلب وزير الخارجية حينها المرحوم فيليب تقلا من المفتش المالي العام المرحوم نديم العبد ان يطالب بزيادة عدد الموظفين. فجاء العبد الى وزير المالية حينها اميل لحود وطلب منه الحاق جان ملحه بملاك وزارة الخارجية، وتبيّن بعدها ان هذه العملية تمت بالاتفاق بين الوزيرين دون علم المدير العام المغفور له أشرف الأحدب. وكانت المراسيم آنذاك تصدر باللغتين الفرنسية والعربية أيام المندوبية العامة الفرنسية التي كانت تشرف بطريقة غير مباشرة على الوزارات.
وعندما استأذن الموظف جان ملحه من المدير العام ترك الوزارة للانتقال الى ملاك وزارة الخارجية، أجابه قائلاً: يا حربوق! طالب تطلع عند أنصاف الالهة؟
ولدى دخوله حرم وزارة الخارجية أحسّ ملحه كانه داخل الى معبد لما تلمسه من الهدوء والاحترام والرهبة والتقدير للمسؤولين كما للزائرين وخاصة لما كان للأمين العام في ذلك الوقت فؤاد عمون من سلطة ورهبة وسطوة على الموظفين.
كانت الدولة في تلك المرحلة تتجه بكل مفاصلها الى ترسيخ مؤسساتها الرسمية والعامة، بما في ذلك وزارة الخارجية والمغتربين، فانضم الى ملاكها وراح يتبوأ الموقع تلو الآخر مع توالي السنوات والعهود.
سنة 1962، استدعي الى وزارة الخارجية والمغتربين، حيث تولى وظيفة أمين المحفوظات العامة الدبلوماسية والمكتبة، فنشط من موقعه في حفظ الارشيف وتبويبه وصيانته ورعايته باعتباره ذاكرة الوطن ومنجم تاريخه ورمز حضارته واصالته وعراقته. سنة 1979 التحق بالسلك الخارجي برتبة مستشار، وكلف بمهمات دبلوماسية في عدد من الدول بدءا بالاردن ثم مدريد ولدى جامعة الدول العربية، ولاحقا في سويسرا وجنيف وقبرص واخيرا في قطر.
وكان تعيينه تم من قبل مجلس الخدمة المدنية بعد اجراء امتحانات نجح فيها.
في 30 حزيران 1986 وقع الرئيس امين الجميل المرسوم رقم 3318 رفع بموجبه كلا من المستشارين في السلك الخارجي في وزارة الخارجية والمغتربين من الفئة الثانية الى الفئة الاولى وهم: جان ملحه، ابراهيم مروش وعبد الغفار عيتاني.
عايش في سويسرا وفرنسا واسبانيا وسواها من الدول الأوروبية والغربية الرؤيا المستقبلية للقرن الحادي والعشرين من خلال بعدين أساسيين، الاول تمحور حول مراقبته الميدانية لمسيرة دول ذات جغرافيا صغيرة تمكنت من منافسة الدول العظمى بخدماتها المتنوعة، والثاني رصده أحوال دول كبيرة، وعريقة عرفت كيف تنهض من كبوتها التي دخلتها بعد سلسلة حروب مدمرة، الامر الذي رسّخ في داخله محورية النهضة في الادارات المركزية والمؤسسات الحكومية في هكذا نوع من الدول.
وكان في تلك المرحلة اجتماع مقرر للجنة المواصلات التابعة لجامعة الدول العربية اتخذ فيها قرار بأن تكون بيروت مركز انطلاق الطريق الدولي، بحضور ملحه وبطلب والحاح منه.
الى ذلك، ساهم وجوده في اوروبا بتنشقه نسائم النهوض المجتمعي الأوروبي على أنقاض الحرب العالمية الثانية وتلمّس ومقومات هذا الواقع الجديد. فترسّخت في ذاكرته كل هذه المشاهدات، الأمر الذي ساعده على المساهمة الفاعلة من موقعه الدبلوماسي في انقاذ لبنان من أتون الحرب وتسريع عجلة انقاذه واعادة اعماره من خلال تلك الأفكار الرائدة التي نادى بها وطبّقها في أكثر من موقع بدءًا بوزارة الخارجية، مروراً بالسفارات والقنصليات التي خدم فيها وصولاً الى المؤسسات التي أدارها والمواقع التي شغلها بعد تقاعده، لاسيما في ترؤسه شركة "هرمس" للسفر والسياحة وفي تأسيسه مع زملاء له منتدى سفراء لبنان.
رافق بعلمه وحكمته مختلف المراحل التي مرّ بها لبنان خلال النصف الأخير من القرن العشرين.
هو علم من أعلام الفكر والدبلوماسية. شارك منذ البدايات الأأولى في تكوين الادارة المركزية من خلال موقعه في وزارة المالية أولاً وفي وزارة الخارجية لاحقًا. لقد أبى الًا أن يكون في مجتمعنا المؤتمن على قيمنا الحضارية. هذا ما ترجمه نشاطه المشرّف في عالم الدبلوماسية وهذا ما يدل عليه حضور الفاعل اليوم في منتدى سفراء لبنان، الذي يستوحي من أفكاره وتاريخه ونشاطه توجّها يخدم المصلحة اللبنانية ويعيد الى لبنان دوره وموقعه ورسالته.
رافق، منذ عقود من الزمن، حركة الدبلوماسية اللبنانية في نشأتها وتطورها المحرور، وكان حريصًا طوال هذه الفترة على خدمة الهوية اللبنانية وحضارة لبنان وتظهر صورته الفريدة بين دول العالم كواحة للانفتاح والتنوع والتضامن الانساني.
لم يخدم قضايا الانسان والوطن في انشطته المتعددة فحسب، بل خدمة، أيضًا، بموافقة الشهمة، وحرصه الدائم على تحرير الفكر وعلى الحرية والعدالة والتقدم.
تنوعت عطاءات جان ملحه، وتعددت مسؤولياته وقد تفاعل معها جميعها بحب ووهبها القدر نفسه من الجهد والمثابرة ولكأنه ازداد ألقًا.
في مهماته الخارجية سفيراً معتمداً، تعاطف مع اللبنانيين جميعًا دون استثناء، وكان قريبًا منهم، اهتمّ بقضاياهم ولم يفرّق بين شخص وآخر أو بين الأديان والمذاهب. كان همّه مساعدة الذين هاجروا بعيداً عن كابوس الحرب وكان هاجسه الأول ترسيخ الهوية اللبنانية رغم تفكك أوصال الدولة.
وكان قد ساهم ايضًا وساعد باهداء أمير قطر الجالية اللبنانية في قطر قطعة أرض شيّدت عليها السفارة.
تميزت دبلوماسيته بالاخلاص في الخدمة والحكمة في العمل والنبل في التعاطي الانساني، والشفافية في الادارة، بحيث استحق أصدق الشهادات وأرفع الأوسمة، وترك أطيب الأثر. من وحي سيرته ونشاطه يستلهم المسؤولون والموظفون كما المواطنون في العمل والوظيفة والحياة الوطنية.
منحه الملك الأردني وسام المملكة الهاشمية الأردنية. ومنحته دولة قطر وشاح الاستقلال من صاحب سمو أمير قطر الشيخ خليفة. ومنحته رئاسة الجمهورية اللبنانية وسام الأرز الوطني برتبة كومندور.
أوسمة وشهادات لم ينلها السفير جان ملحه وحده، بل هي الدبلوماسية اللبنانية برمتها قد نالتها من خلال سيرة هذا الدبلوماسي الشفاف ونشاطه الكبير بعطاءاته الزاخرة لا سيما في حقل التاريخ والتوثيق، وهو المزدان بالعلوم والثقافات والآداب الشرقية وقد غاص في محيطها منذ مقاعد الدراسة في عينطورة والحكمة وفي جامعة القديس يوسف قبل أن يتخصص في حقل المحفوظات الدبلوماسية من جامعات جنيف وباريس ومدريد، فيبرز ويتفوق ويتحول مرجعًا ومستشاراً وممثلا لبلاده يفتخر به وبمزاياه وصفاته الوطنية والانسانية والاخلاقية والفكرية.
يبقى دوره كبيراً في ما تركه من منشورات تبقى للموطن عمومًا وللدبلوماسية خصوصًا مرجعًا خصبًا.
يقول جورج سكاف "لقد اهتم السفير ملحه على الاخص بالتوثيق، وصار فيه مرجعا يعتمد، وله مؤلفات قيمة، تتجدد دائمًا، مع تلاحق الاحداث، سوء.