د. دياب يونس

في إطار برنامج أعلام من بلاد الأرز، تحيّة شكر وتقدير من أنطوان فضّول والمنتدى الرقمي اللبناني إلى الدكتور ديـاب يـونـس، محافظ البقاع ومدير عام للمناقصات (سابقًا).
المحامي والأديب، الأستاذ الجامعي.
من مواليد تنورين. والده مخايل يونس. والدته هند نعمة الله البدوي. متزوج من نجاة حجيج، ولهما أربعة أولاد: نائلة أستاذة جامعية ومترجمة فورية؛ سامر قاض؛ رلى صحافية؛ وهند حائزة دبلومًا في الدراسات العليا للحقوق. حائز عددًا من الأوسمة والجوائز منها: وسام الأرز الوطني من رتبة كومندور وجائزة الأب الشهيد بطرس أبي عقل وجائزة سعيد عقل.
على متن عقود النصف الثاني من القرن العشرين شق طريقه، مواكبًا لبنان في كل تحولاته. من تنورين مسقط رأسه، تمرس على نزعة الحرية والاستقلال، متحاورًا مع طبيعة صلبة يلتقط منها همسات تاريخ سحيق كان شاهدًا على أصالة مجتمع عريق تحوّل للفكر العالمي مشعلاً ومنارة وللخصوصية اللبنانية مدماكًا ونبراسًا.
توزعت دراسته بين مدرسة سيدة اللويزة (زوق مصبح)، والمعهد الأنطوني (بعبدا)، ومعهد الرسل (جونية)، ومعهد المخلّص (بيروت).
أما تخصصه الجامعي فأنجزه في الجامعة اللبنانية حيث تخرّج حائزًا إجازتين الأولى في الحقوق والثانية في اللغة العربية وآدابها. ثم أكمل تحصيله الجامعي في معهد المعلمين العالي بداية (كلية التربية لاحقًا) الذي منحه الكفاءة التعليمية قبل أن ينتقل إلى جامعة القديس يوسف ويتابع تبحرّه في اللغة العربية وآدابها ويحوز الماجستير بالدرجة العليا من كلية الآداب والعلوم الإنسانية فيها. وينهي مرحلته الجامعية باستحقاق دكتوراه دولة في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، بالدرجة العليا.
في بيروت تبلورت فيه شخصية الشاب المستقل. ولعل نزوحه من تنورين وتنقله بين زوق مصبح وبعبدا وجونيه وبيروت جعله يتلمس الحاجة إلى مكافحة حرمان المناطق النائية في الستينيات في زمن يرتدي لبنان فيه ثوب سويسرا الشرق.
هو أحد أبناء جيل النهضة في الستينيات وهو جيل متقدم عن نهضويي أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، منفتح على الفكر الحر والقيم الإنسانية والنزعة نحو مواكبة العصر بوعي وحكمة وإدراك.
في العاصمة اللبنانية عايش أيضًا القضايا العربية كافة. فالتزم جوهر رسالة لبنان الإنسانية النابعة من دور المسيحية المنفتحة والرائدة في سبيل رقي المجتمع ورفعة الإنسان.
منذ فتوته نشط في شؤون الوطن ومن خلال منبر الجامعة تحرك نحو جمع اللبنانيين ودعم الروح الوطنية واستنهاض الروح الوطنية ومكافحة الفساد والتخلف والرجعية والتقوقع.
هو من أبرز مؤسسي "حركة الوعي" وقادتها في الجامعة اللبنانية وقد ترأس رابطة طلاب معهد المعلمين العالي (كلية التربية).
وأمام المخاطر المحدقة بالكيان اللبناني الفتي لم يرض البقاء على الحياد، لا بل لم يرض إلا الوقوف في الصدارة مواجهًا بجرأة كل خطر على القيم والهوية والخصوصية اللبنانية.
إلى سعيه وراء التفوق العلمي والفكري وجديته في الدراسة المعمقة، كانت تتبلور في داخله نزعة وطنية شفافة وهادرة تجلت في محطات متتالية زاخرة بالحماسة والحدة والعنفوان، متزامنة مع تحولات جذرية في مسار الوضع اللبناني. براعم هذه الحركة الوطنية الالتفافية على التمزق الداخلي كانت تحركه الهادف إلى صون الجامعة اللبنانية وتحرير الفكر اللبناني من أي تفكك ورجعية وتشوّه. وهي القضية الأولى التي حملها "تيار الوعي" الذي أبصر النور على يده وزملائه الطلاب، خدمة لهذا الهدف وهذه القضية. عن تلك التجربة يقول في برنامج "من دفاترهم" الذي بثّته إذاعة "صوت لبنان":
"وبعد أن صُغْت ونخبة من الزملاء خلفيتنا الثقافية والوطنية، وأصدرنا مجلة "الوعي اللبناني" في معهد المعلمين العالي،حيث كنت رئيس الرابطة، أطلقنا "تيار الوعي" الذي آمن بأجمل ما انطوى عليه اليمين، وناضل في سبيل أعز ما طرح اليسار. فالكيان والخصوصية والصيغة اللبنينة هي لحمته وسداه، هي الباب والمحراب. فالتقى في ذلك أحزاب الكتائب اللبنانية والكتلة الوطنية والوطنيين الأحرار. وزاد عليها ترفّعًا عن أي مأرب.
الثورة على النظام ومحاربة الإقطاع واعتماد الديمقراطية وخلق جامعة وطنية رائدة كانت من الطروحات التي جعلتنا نلتقي الأحزاب الشيوعية والاشتراكية ونتجاوزها حين تبدو مرتهنة لخارج الجامعة أو خارج لبنان.
الدور اللبناني ورسالة لبنان إلى العالم العربي والعروبة كحركة فكرية تحررية، والقضية الفلسطينية كانت تحملنا إلى لقاء القوميين العرب والبعثيين والفلسطينيين والناصريين في بعض المحطات والمطالب، ونتميز عنهم، احيانًا، بالروية والعقلانية والتجرد عن العصبيات المذهبية.
وكان "تيار الوعي" يُثبت في كل محنة وتجربة أن لا داخل يمحوره ولا خارج يؤدْلِجه، ولا حزب يحميه ولا سفارة ترعاه، ولا زعيم يحرّكه ولا طائفة تدّعيه، ولا ثري يموّله، ولا يخشى سلطة أو عقابًا.
هذا التيار الصاخب في صمت حَمَل على منكبيه معاناة الجامعة اللبنانية وناضل في سبيل تأمين شؤونها جميعًا من الكتب والابنية ومستوى التعليم والمختبرات والمكتبات والكلّيات التطبيقية وكرامة الطالب وحرمة الوطن.
كان محازبو الأحزاب اليمينية ومناصروها شديدي الصلة والثقة بي وكانوا يطلبون من قياداتهم ألا تتدخل معهم في ما يختص بالجامعة اللبنانية حيث يعتبرونني المرجعية بعدما انضووا في "تيار الوعي".
وكنا مع القوميين السوريين الاجتماعيين والبعثيين والقوميين العرب والاشتراكيين والشيوعيين والناصريين والفلسطينيين نعقد ندوات وجلسات نتبادل خلالها الآراء ونحدد القواسم المشتركة ونصوغ رؤى ومشاريع نضال فنلتقي تارة ونفترق طورًا.
تزامنت هزيمة حرب حزيران 1967، مع انتخابه رئيسًا للروابط الطلابية.
في هذا الإطار يقول "تقضي الأمانة أن نذكر ما بات غير مستحب ذكره فنشير إلى شجارات وصدامات مسلّحة شهدتها كلّيات الحقوق والآداب والعلوم في بعض المناسبات.
وكم يطيب لي ان أنبش في دفاتري حادثة أوجزها كما يلي: "فقد أنزل متظاهرون يساريون – فلسطينيون العَلَمَ اللبناني عن مدخل مقر المجلس النيابي المؤقت في قصر الأونيسكو سنة 1968. اجتمع قادة التيار في منزل أحدهم ليلاً وكتبتُ باسمهم بيانًا عنوانه "لبيك لبنان" إن تَسْمَعْه، اليوم، يقشعر لنبرته بَدَنُك. وقرر المجتمعون تنظيم مسيرة تنطلق في الغد من كلية الحقوق – الصنائع إلى الأونيسكو حيث يطيّبون خاطر العلم ويعاهدونه ألا يَدَعوا أحدًا ينظر إليه شزرًا بَلْهَ احتقاره أو دوسه. قابلت مجموعة من "التيار" وزير الداخلية بيار الجميّل في السراي الكبير صباحًا، فحاول بعاطفته الأبوية النبيلة ثنينا عن المسيرة من الصنايع إلى الأونيسكو والاستعاضة عنها بالتجمع في مدرسة الحكمة – الأشرفية الذي كانت أحزاب اليمين دعت إليه، فأجبته باسم الوفد أجوبة نارية أكتفي بتلخيص بعضها: "اللبناني الحق لا يتورّع عن التعبير عن ولائه لوطنه فوق كل حبة تراب. العَلَمُ كئيب وهو ينتظر أبناءه الأصحاح الأقحاح يرفعون عنه الإهانة حيث حصلت. إذا كنت يا شيخ بيار بطلاً وطنيًا فلا تمنعنا من ان نكون أبطالاً وطنيين. وفي كل حال، اعتبروا، يا معالي الوزير، مراجعتنا هذه بمثابة العلم والخبر لإقامة المسيرة".
ومضت المسيرة الحاشدة بصمت ووقار، وشارك فيها طلاب من احزاب وطوائف وتيارات عدّة. وفي الأونيسكو، ألقيتُ خطابًا وطنيًا ووجدانيًا لاهبًا فَرَفَعنا العَلَم ورَفَعْنا المعنويات.
زاول مهنة المحاماة اعتبارًا من العام 1967 حتى 1983، ورافع في كبريات القضايا، وبخاصة أمام محاكم الجنايات.
في 25 شباط 1983، تم تكليفه بالمهمة، فترك بيروت وتوجّه إلى زحلة محافظًا، واستمر في وظيفته حتى سنة 1990.
غداة تعيينه محافظًا، كانت أوصال الوطن ممزقة والعبور عبر الجبل متعذرًا بسبب قطع الطريق وسيطرة الميليشيات المناوئة للحكم في بعبدا.
فكيف وصل محافظ البقاع الجديد إلى مركز المحافظة؟ التفاصيل سجّلها عبر أثير إذاعة "صوت لبنان" في برنامج "من دفاترهم". حيث يقول:
"للوصول إلى مركز عملي في مدينة زحلة، أصررتُ ان أنتقل برًا رافضًا أن يتم ذلك في مروحية للجيش اللبناني، فلست ممن يخاف شعبي على اختلاف مذاهبه وعقائده، وعليّ أن أُطَمْئن البقاعيين إلى أن محافظهم لا ينال منه ترهيب أو خَشيةٌ. ولدى وصولي ، عُدْتُ المطران أوغسطينوس فرح في مستشفى تل شيحا، طالبًا تزويدي ببركته فاستجمع شيئًا من قواه المنهارة ، وصلّى وبارك... وقال: اليوم، أستطيع أن أردد مع زكريا الشيخ: الآن، أطلق يا رب عبدك بسلام".
وفي اول اجتماع عقده لقائمقامي أقضية الهرمل وبعلبك وراشيا والبقاع الغربي، أشعرهم كما ورد في برنامج من دفاترهم "أن عهدًا جديدًا بدأ وأن أسلوبًا في التعاطي نشيطًا وفعالاً قد أطل، وأن فلسفة إدارية ذات أبعاد وطنية واجتماعية قد ظهرت وأن عليهم الانخراط في تحقيق هذه النهضة وهذه الوثبة، وأن يضاعفوا سهرهم ورعايتهم للمواطنين وخدماتهم لأن الصعوبات جمّة والمسؤوليات ثقيلة".
هو عضو في اتحاد الكتّاب اللبنانيين، يتقن العربية والفرنسية، ويلم بالإنكليزية والإسبانية والفارسية واللاتينية والسريانية. وقد شارك في عشرات المؤتمرات الوطنية والدولية، في موضوعات التنمية والإدارة والمال والتربية والعلاقات الدولية والموارد البشرية. كما له العديد من الدراسات والمقالات والخطب والمحاضرات في السياسة والادب والاجتماع والإدارة والقانون.
له عدد من المؤلفات المنشورة:
"الخطابة القضائية"، منشورات دار العلم للملايين
"وقفات ومواقف"، منشورات جامعة سيدة اللويزة NDU.
"رسالة في الخطابة القضائية" (معرّب) لموريس غارسون – منشورات الجامعة اللبنانية
إضافة إلى تجربة وحيدة في المسرح من خلال مسرحية "مواكب الأبطال" التي كتبها من وحي الحرب اللبنانية.
ثائر في آرائه.
انصرف إلى الحقوق والمحاماة ردحًا من الزمن. وتوقف طيلة فترة توليه المحافظة، قبل أن يعود إلى مكتبه منذ سنة 2006، ناشطًا في سبيل الحق والعدل مرافعًا عن قضايا الناس. وكان قد عُيّن أيضًا، مديرًا عامًا للمناقصات بتاريخ 20 أيار 1993. ثم طلب إنهاء خدمته الوظيفية فكان المرسوم الرقم 14509 تاريخ 3/6/2005.
في العام 2006، عاود انتسابه، إلى نقابة المحامين. وقد اعتمده عدد من الشركات التجارية مستشارًا قانونيًا.
نأى بنفسه أن يكون طرفًا سياسيًا أو ملحقًا بحزب أو رهينة خط، سوى خط الوطن الواحد حاضن الجميع.
كان حضوره في البقاع استثنائيًا. وعلى رأس المحافظة بدا كالعملاق المارد، أعاد البقاعيين إلى الوطن. رافع عن قضية المحرومين ودافع عن المظلومين.
كان وما زال لولب المناسبات الثقافية وحاضن النشاطات الاجتماعية. شهدت له الاجتماعات بالرأي الحصيف.
الناس عنده سواسية. أصدقاؤه يتلمسون منه الوفاء، وحاسِدوه العدلَ، أما خصومه، فإن وُجِدوا، فقد كسب في نهاية المطاف ثقتهم.
أديب خصب النتاج، تجوهرت العبارات في منجم دفاتره فجاءت مصقولة كما الذهب. أدبه يحاكي الإبداع وثقافته تموج بسعة الآفاق وعمق الاطلاع. وبأسلوب سليم التعبير يدوّن أروع المقاطع الأدبية، وهو الخطيب الذي تهتز على صدى صوته المنابر.
(إعداد: أنطوان فضّول)
مـلـحـق

مختارات مما قاله خلال برنامج "من دفاترهم" على "صوت لبنان"
"لبنان التنوّع والتعدّد، لبنان التمزّق والتشلّع، لبنان الممر والمقر، لبنان الأديان والطوائف والمذاهب والمناطق، لبنان الحريات والغوغائية، لبنان الرفاهية والحرمان، لبنان الشرق والغرب، لبنان واشنطن وموسكو، لبنان المتشبث بالهوية واللاهث وراء الغير، لبنان الأحزاب ذات الأبعاد اللبنانية والعربية والاممية، لبنان المتوجس خوفًا من العروبة ودعوات الوحدة وأدواتها ولبنان منبرها وساحتها وحامل رايتها، لبنان المدرك خطر إسرائيل، المحذّر من نياتها واعتداءاتها ولبنان الجاهل والخامل والخائف، لبنان الواحد واللبنانات الشتى...
هذه كانت البؤر التي كوّنت رَحِمَ الحركات الطالبية في ستينيات القرن الماضي، في جديدها وتقليدها، في غثّها وسمينها، في حلوها ومرّها، في يمينها ويسارها، في ما هو جامعي حينًا، وفي ما هو وراء الجامعي وبعد الجامعي أحيانًا،
وعندما ولجت الجامعة اللبنانية في العام 1963، لم أشأ أن أكون في عداد هؤلاء جميعًا، كنت نفسي.
كنت لجامعتي الوطنية. كنت لوطني أعي ماهيته وأؤكد دوره. كنت لشعبي أناضل في سبيل جامعة تليق بماضيه ومستقبله ولا أرضى أن تعيش على فتات موائد الحكام، أو أن تبقى دون سائر الجامعات.
"كم أشتهي لو ان الأجيال الجديدة تنمو في ظلال من العافية الفكرية المتحررة ممن يجعلها وقودًا أو بيادق أو بنادق لغايات فئوية أو حزبية أو طائفية.
وفي نداء أخير، أدعو الأجيال الجديدة إلى أن تحطّم القيود، وتثور على الأمس، وتخرج من كهوف الآباء، وتهجر منازل الأجداد.. أدعوها إلى أن تتمرد على من يريدون أن تتقولب في قوالب جاهزة وتنتظم قطعانًا في صفوف ليست جديرة بالمستقبل.
"وفي دفاتري أنني ذات صباح، طلبت من قائد السرية في قوى الأمن الداخلي المقدّم المقدام الياس الحدشيتي أن يوافيني إلى مكتبي، فانطلقنا في سيارته التي توقفت أمام سجن زحلة. ترجّلنا. اطّلعت على بعض سجلاّت السجن. دَخَلتُ والمقدّمَ باحة تجمهر فيها السجناء والموقوفون. خاطبتهم كما يُخاطَب الأحباء. استمعت إليهم برعاية واعتبار، فتبيّن لي أن بعضهم موقوف منذ أربع سنوات دونما تحقيق أو محاكمة، وأنهم جميعًا يعيشون في ظروف لا تليق بالإنسان. وعندما خَرَجْنا، كلّفْتُ المقدّم الحدشيتي أن يضع لي تقريرًا خطيًا مفصّلاً يبيّن عدد المساجين والموقوفين، وسبب توقيفهم، وإجراءات التحقيق والمحاكمة وسوى ذلك.
راجعت وزير العدل النقيب روجيه شيخاني في اليوم التالي، وأودعتُه نسخة من التقرير قائلاً بالحرف: "إن لم تبادروا فورًا إلى مباشرة التحقيق مع هؤلاء ومحاكمتهم، سأطلق سراحهم على مسؤوليتي. أنا مسؤول عنهم، واعتقالهم بدون تحقيق يؤلّف جناية احتجاز حرية". وكان التحقيق فالمحاكمة.
وإن تَنْسَ الذاكرة، فالدفاتر وسواها تذكّرني أنني كنت أرئس ذات يوم، جلسة لمجلس الأمن الفرعي، وفيه النائب العام الاستئنافي، وقادة السرايا، وضابط المخابرات، والأمن العام وسواهم، عندما دَخَل عليّ أمين السر العام ليقول لي همسًا: الشاعر ميشال طراد في الخارج ينتظر. فماذا أقول له؟ انتصبتُ واقفًا ومستأذنًا، وخَفَفْتُ إلى الباب أفتحه سائلاً عن ميشال طراد. فتقدّم منّي مستعظمًا مبادرتي، فبادرته قائلاً: أستاذ ميشال، أنا في اجتماع مجلس الأمن. وقد يستغرق بعض الوقت. فإما أن تدخل وتجلس في مكتب آخر ضمن مكتبي وإما تنصرف وأنا أتّصل بك فور انتهاء الاجتماع. شَرَحَ لي طراد أنّه غير مستعجل وفي مقدوره الانتظار، وأنّه لا داع للجلوس في مكتب خاص ضمن مكتبي. فأوضحت له أنني قلت له ما تقدّم من أجلي أنا وليس من أجله. استغرب كلامي واستوضح، فأوضحت: نعم، يا أستاذ. أنا لا أرضى أن يقال: "الشاعر يقف على باب الحاكم".
صفّق الشاعر طراد وصرخ استحسانًا وأخذ يتدحرج على الدرج بسرعة صبي. مضى طراد ولكن الأحدوثة بقيت. هو رواها لأبناء زحلة وهم يرددون ويتندّرون بها. هو رواها للتلفزيون الأردني بتفاصيلها. أنطوان غندور التقطها ورواها في إذاعة صوت لبنان واحدة من لمسات حنانه. أما هنري زغيب فتلقّفها نادرة قصّها مسهبة في "النهار العربي والدولي" تحت عنوان: "الشاعر لا يقف على باب الحاكم".
وفي دفاتري أنني كنت، في عز الثلج في كوانين 1999، في طريقي من منزلي في زوق مصبح إلى سراي زحلة، عندما أبصرت في أعالي ترشيش شاحنة منحرفة عن الطريق العام، وبضع سيارات محاصَرة بالجليد، فطلبتُ من مرافقي التوقف. فأشار إلى أننا نسير فوق الجليد، فإذا أوقف السيارة سيتعذّر عليه الإقلاع بها. أَمَرْتُه فَفَعَل. إعتقد المحاصرون بالجليد أن سيارة المحافظ مقطوعة كسياراتهم فهرعوا نحوها مبدين استعدادهم لحملها. فقلت لهم بعد أن ترجّلت: "من مصلحتكم يا إخوان، أن أقطع نفسي أو أن تبقى سيارتي مقطوعة معكم. فإذا كنت بينكم تضمنون الاهتمام بكم، وإلا فمن يسأل عنكم في دولة لا تقيم وزنًا إلا للأقوياء والأغنياء". وعلى الفور أجريت اتصالات بالدفاع المدني والمديرية الإقليمية في وزارة الأشغال... وكانت النجدة.