السفير فؤاد الترك
في إطار برنامج أعلام من بلاد الأرز، تحيّة شكر وتقدير من أنطوان فضّول إلى روح السفير فؤاد الترك
والده حنا الترك، والدته لطيفة الهندي.
اما ولادته ففي زحلة عروسة البقاع (حوش الأمراء)، التي رافقته طوال حياته، كالظل، لا تبرح عقله، بل تلهمه وتضخّ فيه القيم الوطنية والإنسانية والحضارية. وبقي هو وفيًا لتلك المدينة العريقة وبارًا بها.
تأثر في مطالعه بمناخات ثلاثة: الطبيعة بين وادي زحلة وبردونيها وسهل البقاع وسلسلة الجبال الشرقية (حرمون)، والعائلة التي ربّته على الأخلاق والعلاقات الإنسانية المنفتحة، والمدرسة بدءً بالمعلم عبد الأحد خوري ثم "الكلية الشرقية" في زحلة، ثم "الحكمة" في بيروت.
مع تنشئة عائلية طبعت حياته بشفافيتها وصدقيتها، جاء تدرّجه الثقافي والعلمي ليطبع شخصيته الإنسانية وفلسفة الحياة التي تبنّى أطرها.
امتدت المرحلة الدراسية على مساحة خمس عشرة سنة من العام 1940 حتى العام 1955، أبصرت عيناه خلالها نور الاستقلال الوطني وامتلأت أنفاسه بنسائم الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية.
انتقاله إلى الساحل في العام 1951 لم يطفئ في داخله دفء الريف وشعلة المبادئ الإنسانية والوطنية التي تلقّاها فيه. لكنّه أضاف إليه ديناميكية وحيوية تنسجمان وواقع المدينة المتحرك والمتحوّل.
لم يدع لحظة في حياته تذهب هدرًا في بيروت، بل دفعته جدّيته في تعاطيه مع واقع الحياة إلى تسريع وتيرة حياته وتنظيم أمورها. وقد حافظ على هذه الحيوية طوال مسيرته.
يتذكّره اصدقاؤه طالبًا جامعيًا نشيطًا يترأس الحركة الطالبية ومواطنًا زحليًا يؤسس الجمعيات، يدعم الرياضة، ينشّط الثقافة والفنون.
خلال فتوته، كان أحد أبرز وجوه التحديث الثقافي في لبنان. فهو رائد في الانتساب إلى الجامعة اللبنانية، فجر تأسيسها، ومن أوائل من نظّموا صفوف طلابها ورسّخوا كيانها وانطلاقتها ومسيرتها. إضافة إلى تأسيسه الاندية الثقافية والرياضية في زحلة مسقط رأسه.
أعلن فؤاد الترك وأشرف السنة 1951 على تنظيم أول اضراب جامعي وأول اضراب عن الطعام في تاريخ الحامعة ولبنان والمنطقة.
في الجامعة اللبنانية، درس التاريخ والجغرافيا وحاز الإجازة عام 1955.
عام 1956، انضم إلى سلك التعليم الثانوي أستاذًا لمدة أربع سنوات في كلية مار افرام التي أنشأها سعيد عقل وجورج عبد الله غره وشارل أبو بشارة، وفي مدرسة الراهبات الأنطونيات. ثم عيّن أستاذًا للتعليم الثانوي فألحق بثانوية زحلة وهي أول ثانوية رسمية في المنطقة. وبعد أقل من شهرين، كُلّف برئاسة دائرة التربية في البقاع بالوكالة.
في تلك الفترة، صودف أن قرأ إعلانًا عن مباراة لدخول السلك الخارجي فقرر المشاركة فيها ونجح، فالتحق بالسلك الخارجي عام 1957، وتغيّر توجّهه المهني بشكل جذري، وبدأ يتبوّأ المركز تلو الآخر.
أتقن الفرنسية والإنكليزية والإسبانية إلى جانب العربية مع إلمام بالفارسية والبرتغالية.
إنقطع إلى العلم وجمع المعرفة، وتمتع بأسلوب أدبي رفيع، ممتلكًا ناصية اللغة ملوّنًا أحاديثه بالأدب والفكر وغالبًا بالطرفة اللطيفة.
نشرت له محاضرات وندوات عديدة عالج فيها مواضيع تاريخية واغترابية ودبلوماسية، كما ظهرت عنه مؤلفات عدّة منها كتاب "آفاق لبنانية – فؤاد الترك" لجوزف السخن (بيروت 1993) وكتاب "سعادة السفير" الصادر عام 1996 عن مؤسسة ريبوراما وكتاب "فؤاد الترك" لأنطوان فضّول وأمل نمير شعيا.
تقسم مراحل حياته الديبلوماسية إلى أربع: بلدان الانتشار اللبناني في العالم، إيران، الامانة العامة لوزارة الخارجية والمغتربين وأخيرًا فرنسا وسويسرا.
تنقل في النصف الأول من حياته المهنية بين دول الانتشار اللبناني: كندا (أربع سنوات) كولومبيا ومعها الإكوادور والبيرو زبوليفيا سنة كسكرتير للبعثة إلى جانب السفير ملحم تلحوق وثلاث كقائم بالأعمال: قنصل عام في نيويورك، ثم سفيرًا في الأرجنتين (ومعها الأورغواي والباراغواي وتشيلي). كما كلّف بمهام لدى الجاليات اللبنانية في إفريقيا.
عام 1959، عُيّن ملحقًا في سفارة لبنان في كندا، وبين السنتين 1964 و1966، تسلّم مهمة السكرتير الأول في سفارة لبنان في كولومبيا، ثم بين 1966 و1969، قائم بالأعمال في كولومبيا وبوليفيا والإكوادور والبيرو، وتولّى بعدها عام 1969 رئاسة دائرة الشؤون الدولية في الإدارة المركزية في بيروت.
في المرحلة الأولى من مسيرته الدبلوماسية (1959 – 1978)، أعار الانتشار اللبناني في العالم كل اهتمام، وقام بنشاط لم يضاهه أي نشاط آخر في تاريخ وزارة الخارجية.
انكب على تعبئة طاقات الانتشار وقدراته الهائلة في جميع المجالات.
أسس عددًا وافرًا من النوادي والجمعيات اللبنانية وعشرات الفروع للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم في بلدان الانتشار، وغرف التجارة وجمعيات الصداقة والمراكز الثقافية، ونشر التراث اللبناني، فولكلورًا وأدبًا وفنًا وتاريخًا، وتنظيم رحلات للشباب المتحدّر من أصل لبناني إلى بلد الآباء والأجداد.
عام 1971، كان أحد أعضاء الوفد الرئاسي إلى تسع دول إفريقية، وفي السنة عينها عُيّن قنصلاً عامًا في نيويورك ومستشارًا في البعثة الدائمة لدى الأمم المتحدة.
عام 1973، شغل منصب سفير لبنان في الارجنتين وسفير غير مقيم في التشيلي والاورغواي والباراغواي.
كان سفير لبنان في الأرجنتين عندما اندلعت الحرب في لبنان.
في كانون الأول 1978، عُيّن سفيرًا في إيران وسفيرًا غير مقيم في أفغانستان. وقد عايش المرحلة الانتقالية من عهد الشاه إلى عهد الإمام الخميني وولادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية على انقاض النظام الإمبراطوري الشاهاني.
ساهم الترك في حل قضية الرهائن الاميركيين. كما كان الدبلوماسي الأول بعد الإيرانيين والأميركيين والجزائريين الذي علم بموعد إطلاق رهائن السفارة.
في العام 1983، تبوّأ منصب أمين عام وزارة الخارجية والمغتربين.
ترأس الوفد اللبناني الرسمي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ثلاث مرّات وذلك في الاعوام التالية: 1984 و1986 و1987. كذلك ترأس الوفد اللبناني إلى جامعة الدول العربية دورات عدّة، وتولى رئاسة بعثة صداقة إلى إحدى عشرة دولة إفريقية في العام 1987، كما شارك في مؤتمرات مجموعة عدم الانحياز ومؤتمرات واجتماعات أخرى عديدة إقليمية ودولية.
اعتبر البطريرك الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير أن السفير فؤاد الترك هو "أحد مهندسي سياسة لبنان الخارجية".
يجمع المحللون والسياسيون والباحثون في التاريخ على اعتبار المرحلة التي تولى فيها السفير الترك الأمانة العامة في وزارة الخارجية (1983 – 1988) من أدق المراحل في تاريخ هذه الوزارة.
في فترة القطيعة بين قصر بعبدا من جهة والقصر الحكومي ورئاسة مجلس النواب من جهة اخرى، نجح في اعتماد المراسيم الجوالة في غياب انعقاد اجتماعات مجلس الوزراء وكان يتنقل بشكل شبه يومي بين شطري العاصمة رغم الوضع الأمني الخطير السائد آنذاك.
ترأس الدبلوماسية اللبنانية من موقع أمين عام وزارة الخارجية والمغتربين ووقف بوجه الريح وحيّد قصر بسترس، ونجح في حفظ الانتشار اللبناني في العالم.
بمقدرته الإدارية المميزة، توصّل إلى إنقاذ الخارجية من خطر التشرذم والانهيار وعرف كيف يرسم سياسة تتخطى عقدة الحرب وانقساماتها وتداعياتها وأثبت بالتالي مقدرة ديبلوماسية مدهشة.
ارتبط اسمه بالخارجية اللبنانية لا بل صار عنوانًا لها في مرحلة هي الأدق والاخطر في تاريخ لبنان المعاصر. شخصيته المميزة وأسلوبه الخاص أنقذا لبنان من أتون البركان الهادر في وقت كانت الجغرافيا العالمية كلّها تتحوّل والعلاقات الدولية تتغيّر أولوياتها مع بروز العولمة مفاهيمها وتوجهاتها ونهاية الحرب الباردة وبداية زمن القطب الأوحد.
كان أداؤه في اعلى درجات المسؤولية علمًا وخلقًا واحترامًا، وجمع بين التصلّب في المبدأ والمرونة في الأسلوب، من دون ازدواجية او تشوهات او مساومة أو ارتهان.
تحمّل المسؤوليات الكبيرة، وأظهر مقدرة لافتة على التصميم والتنظيم والإدارة والتنسيق والتدقيق.
تمكن ببراعته وسعة أفقه من الإسهام في الربط بين رئاسات الجمهورية والبرلمان والحكومة، والتوفيق بينها والخروج بمعطيات وتوجهات أدّت في النهاية إلى بلورة موقف موحّد للبنان رُسمت في إطاره استراتيجيته السياسية.
عرف السفير الترك كيف يُخرج هذه الاستراتيجية من رحم الدولة وكانت في مرحلة مخاض دقيقة، ثم، يُساهم في تظهيرها ثوابت وطنية، بدأت الحكومات اللبنانية ترسم سياساتها من وحيها.
في زمن عصفت العواصف بلبنان، كان أحوج ما يكون إليه هذا الوطن الصغير الضحية إلى رجال يتمتعون بصلابة الجبال وصمتهم. فكان فؤاد الترك خير من جسّد هذه الحاجة الوطنية.
عيّن عام 1988 سفيرًا للبنان في فرنسا ومن ثم سفيرًا في سويسرا بين العامين 1990 و1995.
تقاعد في العام 1995، وبقي محط أنظار اللبنانيين وأضواء الصحافة.
وقد انتخب منذ العام 2000 رئيس منتدى سفراء لبنان حتى وفاته في السنة 2012.
لا يزال هذا السفير الرائد يلهم الانتلجنسيا اللبنانية بأفكاره وهو الذي تسلّم قيادة الديبلوماسية اللبنانية بعد أن ساهم في تنظيمها وتعبيد الطريق امامها في مسيرتها نحو اقتحام مختلف الأرجاء.
أحبّه اللبنانيون جميعًا، لما تمتع به من خصال حميدة وما أنجزه من خطوات تاريخية وللمواقف الوطنية التي صدرت عنه.
بعبقريته أنقذ الدبلوماسية اللبنانية في زمن الانهيار الداخلي والشلل التام والانقسام المدوّي.
مع ثورته على منهجية تدمير لبنان، تصدّى بموضوعية، للتعصّب والنفاق والتكاذب والاطماع الخارجية.
حافظ بحكمة على وحدة الوطن في ظل انقسام الحكم، وفي قلب عاصفة هوجاء من تفجيرات واغتيالات وتهجير.
طوال وجوده في قلب الإدارة، لم يسع لعلاقات ظرفية ولم يعمل في إطار خلفية سياسية معيّنة. كانت المصلحة الوطنية العليا هدفًا لكل نشاط قام به أو موقف أعلنه.
من هنا شعاره الشهير: "أنا عامل عند رب عمل واحد هو لبنان".
يحترمه الجميع لنظافة كفّه، وتفانيه وتجرّده.
لقد تسلّح بالحق والنبل والشيم الخلقية التي تعكس كبره وشموخه وشهامته.
والنتيجة الطبيعية: تمكّنّ من ان يسكن ضمير الوطن، بعد أن خدمه بكل جوارحه.
(إعداد: أنطوان فضّول)