د. فريد الياس الخازن (١)

إتفاق الضرورة وسلام الشجعان
ليس مستغرباً أن يعتبر المعنيّون أنّهم خرجوا منتصرين من الاتّفاق بين “حماس” وإسرائيل برعاية أميركيّة ودعم إقليميّ ودوليّ. استطاع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يحمل طرفَي النزاع على المضيّ باتّفاق لا يلبّي طموحات أيّ منهما.
استطاعت “حماس” أن تُعيد الاهتمام الدوليّ بالقضيّة الفلسطينيّة، بينما استطاعت إسرائيل أن تدمّر وتقتل وتفرض شروطها على “حماس”. استجلب أهل غزّة المنكوبون تعاطفاً دوليّاً لوضع حدّ لمأساتهم. استطاعت دول عربيّة وتركيا أن تكون فاعلة في إنجاز الاتّفاق. حتّى إيران لم تغِب عن المشهد ونالت حصّتها شكراً من الرئيس الأميركيّ.
حرب غزّة والتسوية التي تلتها لا شبيه لهما في مسار النزاع العربي- الإسرائيلي. من نكبة إلى نكسة، إلى حرب 1973 التي أعادت التوازن المفقود لكن مهّدت لمعاهدة سلام أخرجت مصر من النزاع وأدّت إلى إخراج الجولان من العمليّات العسكريّة. بعد خروج منظّمة التحرير من لبنان جرّاء اجتياح 1982، تمكّنت من استعادة حضورها داخل فلسطين مع انتفاضة الحجارة التي مهّدت للمفاوضات العربيّة- الإسرائيليّة بدعم أميركي ثمّ اتّفاق أوسلو.
المفتاح بيد ترامب والأقفال بيد نتنياهو
أمّا نكبة غزّة اليوم، مضافاً إليها التأييد العالميّ لحلّ الدولتين بمبادرة سعوديّة- فرنسيّة وعزلة إسرائيل الدوليّة، فقد تفتح الباب لتسوية قوامها دولة فلسطينيّة إلى جانب إسرائيل. مفاتيح الحلّ بيد ترامب والأقفال الموصدة بيد نتنياهو. الهوّة واسعة بلا شكّ، إلّا أنّ الظروف تبدّلت بعد عامين من مواجهات أوصلت الأطراف جميعها إلى طريق مسدود.
أرادت “حماس” إلحاق الهزيمة بإسرائيل وردّت إسرائيل بتعطيلها وجعلها بلا نصير فعليّ. لم تكتفِ إسرائيل بالقتل في غزّة بل انتقلت إلى قطر للقضاء على قادة “حماس”. بدل أن تستقبل مصر والأردن دفعة جديدة من اللاجئين الفلسطينيّين، أصبح دورهما محوريّاً في التسوية التي أُعلنت على أرض مصر.
أتاحت سلسلة رهانات خاطئة للرئيس ترامب أن يأخذ المبادرة بواقعيّة وإصرار هذه المرّة. لا تهجير جماعيّاً وحتّى لا تطبيع إبراهيميّاً بلا مقابل. باتت الحاجة ماسّة إلى دور عربيّ في الحسابات الأميركيّة والدوليّة. لم يعُد بالإمكان تجاهل دور السلطة الوطنيّة أو التعامل معها على قاعدة محاربة الإرهاب، علماً أنّ على السلطة تبديل الأداء.
واقعيّاً، واستناداً إلى المصالح الحيويّة، تبدو الظروف مؤاتية للمبادرة بعيداً من الشعارات والأوهام. ماذا ينفع أميركا لو ربحت إسرائيل وخسرت العالم كلّه؟
لا سلام من دون حلّ القضيّة
أمّا السلام الموعود فلم يعُد لازمة كلاميّة بين دوّامة عنف وأخرى، ولن يرى النور إلّا بعد الحلّ العادل للقضيّة الفلسطينيّة. هنا بالذات يأتي دور أميركا وإرادة رئيسها، بينما لم يعُد لنتنياهو، المحاصر داخليّاً وخارجيّاً، سوى الدعم الأميركيّ.
في معادلة كهذه، للرئيس ترامب مصلحة في استكمال الاتّفاق باتّجاه حلّ الدولتين. له أيضاً دوافع شخصيّة في حال أراد تتويج مساره بالجائزة العالميّة. بذلك يعود ترامب إلى الخطّ الذي سلكه أسلافه، من ليندون جونسون إلى جو بايدن مروراً برؤساء جمهوريّين كثر، الذين أيّدوا حلّ الدولتين عبر دعم القرارات الدوليّة أو اتّفاق أوسلو. الواقع أنّ مصالح أميركا الوازنة تكمن في العالم العربي وتركيا وحتّى مع إيران، أكثر ممّا هي مع إسرائيل.
تحتلّ إسرائيل نحو 75 في المئة من فلسطين ولم تستطع أن تأسر إرادة شعبها. دعمت أميركا إسرائيل الأكثر تطرّفاً ولم ينتهِ النزاع. تحالفت دول عربيّة مع أميركا ولم يحُل ذلك دون استهداف قطر. سارت السلطة الوطنيّة باتّفاق أوسلو إلى أقصى حدود الممكن ولم تتمكّن من ردع التوسّع الإسرائيليّ والتهويد. ذهبت إيران إلى أقصى حدود التحدّي ولم تنَل مرادها. هذا يعني أنّ السلام لن يأتي بالأدوات العسكريّة بل بالتسوية العادلة.
أمّا لبنان وسوريا فهما في عين العاصفة، سواء أُنجز الاتّفاق أو تعثّر. في سوريا توازنات معقّدة بين أطراف متناحرة، بينما في لبنان أولويّات أميركا وإسرائيل والعرب متقاربة، خلافاً لأوضاع سوريا.
الاتّفاق فرصة
يشكّل الاتّفاق فرصةً في حال أُحسن استثمارها. إسرائيل بحاجة إلى أميركا وليس العكس. وحدة الساحات سقطت والجميع في ورطة، وإن اختلفت أحجامها والأسباب. ذهبت “حماس” إلى الحرب متوقّعة دعم إيران العسكريّ. لكن سرعان ما أضحت إيران أسيرة نزاعها مع أميركا وإسرائيل.
تحرّكت واشنطن أخيراً للحؤول دون الغرق في سفينة نتنياهو بعد الاعتداء على قطر والعزلة الدوليّة المتفاقمة. هل لأميركا مصلحة بمشاركة نتنياهو سعيه إلى شيطنة معارضي إسرائيل، وهم اليوم أكثريّة الدول والشعوب، لا سيما أنّ غزة أصبحت قضيّة بأبعاد إنسانيّة بقدر ما هي وطنيّة؟ ما قد يأتي بعد غزّة، سواء باتّجاه الحلول أو الأزمات جرّاء عدم التزام الاتّفاق، أصبح مسؤوليّة أميركيّة وإقليميّة ودوليّة، حافزها المصالح وحاميها كرامة الإنسان. عندها يُشاد المدماك الأوّل لسلام الشجعان. خلاف ذلك، طوفان بوجه طوفان، وبالتالي سلام مصيره النسيان.