غوصٌ في مرحلة ما بعد أورتاغوس
كتب أنطوان فضّول:
انتهت مهمة المبعوثة الأميركية إلى لبنان مورغان أورتاغوس، في لحظة شديدة الحساسية إقليمياً وداخلياً، بما يجعل المرحلة التالية محط أنظار القوى السياسية اللبنانية والدبلوماسية الدولية على حد سواء.
مع رحيل أورتاغوس، بدأت واشنطن عمليًا بتقييم حصاد دورها اللبناني في الأشهر الماضية، وأعادت رسم أولوياتها ضمن مشهد إقليمي متبدّل، ومأزق لبناني مستمر.
خروج أورتاغوس من المشهد اللبناني قد يشير إلى تراجع الرهان الأميركي على تحقيق خرق سياسي سريع، رغم كل الضغوط والرسائل التي أوصلتها خلال جولاتها.
لكنّه أيضًا لا يُعبّر بالضرورة عن انسحاب أميركي، بل عن انتقال إلى أدوات ضغط مختلفة أو أشخاص جدد.
واشنطن قد تكون قررت تحجيم الدور العلني في لبنان لصالح العمل عبر القنوات الخلفية أو عبر شركاء دوليين مثل فرنسا والفاتيكان والسعودية، مما يُوحي بإعادة تموضع أكثر مما هو انسحاب.
تبقى أولوية واشنطن القصوى ضبط حدود لبنان الجنوبية ومنع انزلاق الوضع إلى حرب شاملة، خاصة في ظل تصاعد الحرب الإسرائيلية – الإيرانية بالوكالة، وهو ما يستدعي دورًا أكبر للجيش اللبناني واليونيفيل، بدعم أميركي مباشر.
باتت واشنطن تدرك محدودية خيار "العزل" أو "الضغط الأقصى" على حزب الله في الداخل اللبناني، لذا ستعمد إلى استراتيجية مزدوجة: تقليص نفوذه في المؤسسات، وفي الوقت نفسه الحفاظ على قنوات التواصل غير المعلنة لتفادي التصعيد الأمني.
إن التحولات في العراق وسوريا وغزة وإيران فرضت على أميركا مراجعة أولوياتها، بحيث لم يعد لبنان سوى “حلقة” من سلسلة معارك النفوذ الإقليمي.
بالتالي، فإن تحركها اللبناني المقبل سيُقاس بمدى ارتباطه بالمشهد الأوسع.
أعقب انسحاب المبعوثة الأميركية تنشيط للدور الفرنسي والخليجي، في محاولة لسدّ الفراغ الدبلوماسي.
مغادرة أورتاغوس المشهد اللبناني قد تُفسَّر داخليًا كإشارة إلى فتور أو تراجع الضغط الخارجي، مما يُتيح للقوى مزيدًا من الوقت للمراوحة، ما لم تُستكمل الضغوط عبر قنوات أخرى.
من جهتها، القوى الداخلية المحسوبة على الخط السيادي، تجد نفسها مضطرة لمراجعة أولوياتها وأساليبها في ظل تراجع الدعم الأميركي المباشر، والبحث عن بدائل فاعلة.
أما قوى "الممانعة" فتعتبر انتهاء مهمة أورتاغوس "انتصارًا رمزيًا"، ما يدفعها إلى مزيد من التشدد في ملفات التفاوض الداخلي، إلا أن غياب الغطاء الإقليمي الثابت قد يفرمل هذا الاندفاع.
إنهاء مهمة المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس لا يعني أن واشنطن تخلّت عن الملف اللبناني، بل يُشكّل انتقالًا من مرحلة “الدفع المباشر” إلى مرحلة “إعادة الحسابات”.
الأولويات الأميركية ما زالت على حالها: الإصلاحات الداخلية، ضبط الجنوب، احتواء حزب الله، والتهيؤ للمتغيرات الإقليمية القادمة.
لكن لبنان، بمؤسساته الضعيفة وطبقته المنقسمة، يبدو عاجزًا عن التقاط اللحظة، ما يُبقيه في موقع الانتظار، إلى أن تفرز التحولات الكبرى على مستوى الإقليم فرصة جديدة للحسم، قد تأتي في توقيت لا يُناسب الداخل، ولا يُراعي مصالحه الوطنية.