غازي صعب والمكتبة الوطنية في بعقلين
في إطار برنامج أعلام من بلاد الأرز، تحية شكر وتقدير من أنطوان فضّول والمنتدى الرقمي اللبناني إلى الأستاذ غازي صعب مدير المكتبة الوطنية في بعقلين.
منذ ولادته، في الكحلونية، قضاء الشوف، في 1/9/1949، وهو يحيا مع الكتب والدفاتر. نشأ وترعرع، وفي يده قلم، ولا يزال يتابع مسيرة الأدب والثقافة والتربية. اسمه اقترن بالفكر وديناميكية الحوار، وكلمته، في كل مناسبة أو مقام، كلمة فصل، لا يساوم، ولا يهادن. موجوع، متوتّر، وعلى عصب غاضب، ولكنّه يحافظ على وعي وابتسامة، فهما طريقه الى القلوب والعقول.
إنه غازي صعب، الذي، في مرحلة، كانت شديدة الدقّة من حيث التجاذبات الأيديولوجية ومن حيث انحدار التربية والثقافة إلى أدنى مستوى لها في تاريخ لبنان المعاصر، وقع الخيار عليه لإدارة أهم معلم ثقافي وفكري في قضاء الشوف ألا وهو المكتبة الوطنية في بعقلين.
متأهل وله أربعة أولاد. حائز الشهادة الثانوية العامة من الكويت، أما تحصيله الجامعي فأنجزه في لبنان، حائزًا الإجازة في العلوم الاجتماعية إلى جانب دراسته لسنتين العلوم السياسية.
في ربوع تلك البلدة الشوفية الهادئة، تعرّف على خصوصية الطبيعة اللبنانية، وتلقى أسرار العلم والمعرفة، غائصًا في بحار ثقافة القرن العشرين، من دون أن يخرج عن أطر الأصالة اللبنانية.
حركة مفعمة بالنشاط طبعت مرحلة فتوته وشبابه، فإذا به عضو مؤسس للكشاف الكويتي من 1958 حتى 1970، حائز الشارة الخشبية. في السنة 1980، تولّى قيادة الفوج الخامس في الحركة الكشفية وشارك في المخيمات والمؤتمرات والنشاطات المتعددة التي تدخل في صلب مسيرتها. ومن 1981 حتى 1987، تمّ اختياره قائدًا عامًا للكشاف التقدمي.
في مرحلة دقيقة ومحورية من تاريخ لبنان المعاصر، تعبق بالتجاذبات السياسية، إختار غازي صعب التربية والتعليم قطاعين يعيش في ظلهما قناعاته الوطنية. فعمل مدرّسًا في وزارة التربية والتعليم العالي.
نشأت على يديه أجيال من الطلاب، أسهموا في تنشيط حركة النهضة في لبنان وتحريرها من أتون الحرب والتخلّف والانحطاط.
آمن بالعلم والثقافة والفكر الحر والديمقراطية ثوابت أساسية تَبْقَى وتُبْقي معها المجتمع على حيويته ونموه وازدهاره، أما الإهتمامات الأخرى فهامشية في حياة الأوطان، لا بل قد تؤسس لبركان قادر أن يفجر كل الوطن.
على خلفية ثقافته المؤمنة بالإشتراكية العالمية وقناعته الراسخة بالمساواة والعدالة الإجتماعية، وفي مرحلة بلغت الأحداث في الشرق الأوسط أوجها، انضم إلى صفوف الثائرين على هذا الواقع المذلّ وثار على واقع الإندحار العربي وتبنى حق مقاومة الإحتلال الإسرائيلي. ولعل تأثره بفكر المعلم كمال جنبلاط، شكّل المحطة الفكرية الأبرز في مسيرته، حيث تلمّس بهذا القائد التاريخي أبوّة غمرت حياته، ودفّقت في باطنه التزامًا بقضية الإنسان والحق العربي وحرية الشعوب. فعاش الأمانة لشخصه ولنهجه ولرسالته الوطنية. والتزم بعد استشهاده خط نجله الزعيم وليد جنبلاط، وانتسب سياسيًا، إلى الحزب التقدمي الإشتراكي وناضل في صفوفه متبوءًا مراكز قيادية عدّة.
ترأس الوفود الشبابية إلى مهرجانات الشباب العربي والعالمي في موسكو 1985، وفي الجزائر 1987، وفي كوريا 1989.
هو عضو مشارك ومؤسس في عدد من الجمعيات والأندية الثقافية والإجتماعية. ساهم ويساهم في مؤتمرات وندوات في المواضيع المكتبية والثقافية والأدبية في لبنان وخارجه. كما أنّه تولّى إدارة مهرجانات بيت الدين من 1989 حتى 1991.
إلى ذلك سجّل حضورًا على المستوى العربي والعالمي من خلال شبكة معارف وعلاقات اتخذت طابعًا دوليًا في بعض وجوهها، مواكبًا العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية، ومن خلال عضويته في العديد من اللجان والجمعيات العالمية، منها: اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي، 1992، واللجنة التنفيذية لشبيبة الإشتراكية الدولية حتى 1992، واتحاد الشباب العربي حتى 2001.
لقد سجّل حضورًا لافتًا في العديد من المؤتمرات العالمية، مواكبًا مجمل التحولات على الساحة الدولية، ومكتنزًا المعرفة السياسية والثقافية والعلمية التي أغنت رؤيته الإنسانية وعمّقت خبرته.
اختارته جامعة MUBS مستشارًا، مديرًا للعلاقات العامة من 2007 حتى 2009. فبث روح التعاون داخل صفوف الفريق الأكاديمي والإداري كما بين الموظفين والطلاب في الجامعة وفرض نوعًا من الجدية في العمل أكسبت الجامعة مصداقية وطوّرت نوعية الخدمة فيها.
في مسؤوليته وحضوره وعمله، عكس صورة الإداري الحكيم والهادئ والرصين. كانت الواقعية تهيمن على أفكاره. لمساته واضحة في الكثير من القرارات التي اتخذتها إدارة الجامعة والتي أثمرت خيرًا وتطويرًا لأدائها وموقعها.
منذ أن عُيّن مديرًا للمكتبة الوطنية في بعقليك في 1999، وهي تشهد قفزة نوعية نحو الحداثة ومحاكاة العصر.
لقد حول هذا الصرح التاريخي العريق إلى مركز ثقافي ومكتبة وطنية وقاعة للمطالعة والبحث، ومنتدى لعقد المؤتمرات واللقاءات الفنية والثقافية. وتم تجهيز هذا المركز بأحدث الوسائل التقنية والعلمية المتطورة، وبأجهزة الكومبيوتر الموصولة بالإنترنت. كما تم إثراء المكتبة بآلاف الكتب والموسوعات من مواضيع مختلفة، فضلاً عن عشرات المخطوطات والمجلات والصحف. وقد افتتح مؤخرًا مسرحًا حديثًا بدأ يتحول إلى منبر ريادي يطال بشعاعه كامل جغرافيا الوطن.
لا تعرف أفكاره المساومة، فيها الجرأة في التعبير والوضوح في الرؤية والصدق في تشخيص الأطر، وذاك الدفء في التعاطي مع الوجدان الوطني والقيم الإنسانية.
عرفته المنابر خطيبًا ذا شخصية قوية وفصاحة لغوية ومقدرة على إيصال الفكرة بأقصر العبارات وأغزرها حبكة. أصدر مجموعة قيّمة من المؤلفات والكتب، واشترك في مئات من المؤتمرات والمحاضرات المحلية والدولية.
له أربعة مؤلفات تجمع بين السياسة والتاريخ والأدب، إلى جانب باقة من المقالات الثقافية وآراء في شؤون المكتبات نشرت في دوريات وصحف عديدة.
مؤلفاته صدى للعصر، تتفاعل معه، وقد أصبحت من المبادرات الثقافية الدورية التي تخلف وراءها حركة تجديدية وترسم آفاقًا ذات أبعاد حضارية.
غاص في محيط التربية وسبح في بحار الثقافة حتى امتلك رؤية تربوية شاملة ارتكزت على خبرة عميقة ووطنية راسخة ومعرفة اعتمدت على العلم والاطلاع والاحتكاك المباشر مع جيل الشباب، فنشط في أكثر من لجنة ذات وجه ثقافي وأدبي، حيث ترك أعمق الأثر في جغرافية الوطن الفكرية بكاملها، مسجلاً حضورًا ملفتًا على مستوى المؤتمرات الدولية ما أعطى حركته بعدًا عالميًا جعله يتخطى حدود وطن الأرز ليلامس الآفاق العالمية.
(إعداد: انطوان فضّول)